Tuesday, September 29, 2020

الكتابات العربية للممارسة

الحمد لله الذي نزل أحسن الحديث كتابا عربيا ليكون به عباده يعقلون. والصلاة والسلام على النبي رسول لله محمد صلى الله عليه وسلم هو الإمام المهدي ورحمة للعالمين. وكذلك لأزواجه وأصحابه ومن تبعه اتباعا أحسن، عسى أن يوفّى أجرهم غير ممنون. أما بعد. اللغة العربية هي اللغة الدينية واللغة الدولية التي اعترفها أنباء الأمم المتحدة. فبأهمية في هذه اللغة التي هي ليست بمهمة في تفقه الدين وحده، بل هي مهمة في تمهيرها، أنا أنشر هذا العنوان لأجمع كتاباتي في اللغة العربية التي أكتبها لممارسة مهارة هذا اللغة. هذه الكتابات تتضمن موضوعات في تنوع قضايا؛ قضية الدين والحديث والفقه والنصيحة وغيرهم، بعضها ترجمتها من اللغة المالزية.

وليس في هذه الكتابات تحت هذا العنوان موضوعا منظما لأجل هذه الكتابات العشوائية. بل ليس لها موضوعا إلا وجدت فيها المناسبة ويحتمل أن يكون تكرار الموضوعيات في بعض الكتابات. فما زالت هذه الكتابات تزاد وتجدد إن يحتاج بها وقتا على الوقت. فينبغي للقارئ أن يتبع هذا العنوان استمرارا. والأخير أدعو إلى الله ليعطينا فقيها في هذه اللغة وأيضا في دينه.

للسهولة القراءة، من فضلك أن تقرأ من تومبلر لي : https://amirkazuma.tumblr.com/tagged/arabicwritingamirkazuma

الكتابة الأولى : هل قول الحاكم النيسابوري في الجرح والتعديل معتبر؟ 

إن قول الحاكم النيسابوري في الجرح والتعديل معتبر إلا الذي في المستدرك. قد نقله الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد كثيرا وإن أتى بكلام أبي الفضل ابن الفلكي الهمذاني عن إنكار أصحاب الحديث على جمع أحاديث الذي زعم الحاكم أنها صحاح على شرط البخاري ومسلم. وأبو يعلى الخليلي أيضا في الإرشاد في معرفة علماء الحديث والبيهقي في السنن الكبرى تقريبا ثلاثة أقوال وفي الأسماء والصفات بقوله الواحد. وهم به يحتجون. فهذه بينة على قبول قوله في تبيين الرواة. فأما في المستدرك فلا لأنه ربما تغير كما قال الذهبي في تاريخ الإسلام في ترجمته.

الكتابة الثانية : هل قول الصحابة الذي لم يدل على اجتهاد يشير إلى المرفوع في حكمه؟

بعض الناس يذهب إلى إذا كانت الصحابة تفعل أو تقول شيئا لا نستطيع أن نعده اجتهادا، فهو مرفوع بالحكم. وأنا ممن لا يوافقه في ذلك الرأي وأذهب مذهب عائشة في صرامتها على نقد بعض أصحابها رضي الله عنهم من جهة الشيء ما يعد مرفوعا وغير اجتهاد. إما تصح أو تخطئ فليس بمسألة ههنا ولكنه هو مترابط بالموقف. إن إن كان علينا يلبس ذلك من رسول الله أم لا، فلا نعده مرفوعا تساهلا. خذوا ما كان  للعائشة رضي الله عنها موقفا إلا وجدتم دلالة تثبت في الحكم مرفوعا. قال أبو حنيفة: ما نقل إلينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فمقبول وما نقل عن الصحابة وهم رجال ونحن رجال. [المسودة في أصول الفقه، ص 337، دار الكتاب العربي، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد].


الكتابة الثالثة : بينة على دور العقل في التعامل مع الوحي

علم مختلف النص ومشكله في القرآن والحديث هو بينة على قيام الدور للعقل في تعامل مع الوحي. العقل عينُه لا يقبل ولا يثبت حقائق مختلفة. هذه الإجابة طاقة بذاته لا يحتاج على إرشاد الوحي ليعلم متى يعتبر أشياءُ متعارضة أم لا. فههنا يبدأ العقل يحرك قوته لبحث جوابه. فدوره مهمٌّ في تفقه النص المنزل الموصّل. فبذلك إهماله إنما هو من قول الذي سقم عقله.

مباحثة أصول الفقه كإشارة النص ودلالة النص والمفهوم والقياس وغيرهم كلهم حاصل ملاحظة العقل في النظر وراء النص الظاهر. بل لا فائدة في تسيمة الاجتهاد إن كان ذلك م نغير عصر العقل على استقصاء ذلك النص حقا. لن يجد أحد من الناس معنى وفقها وتفسيرا إلا أن يبذل شخصٌ جهده لنظره بجميع التعمق والأشمل. قد أحياه القرآن تفكيرا لاسيما ضرب الأمثلة من الله لكي يعمل فهمًا وإفاقة كماذا يحدُث إذا وجد إلهين اثنين وغيره. إن عدم قيام دوره على التعامل هذا، لقد نزل القرآن للجنون!

ظن بسوءٍ بعضُ الناس في قوله "تقديم العقل قبل الوحي" إفراطا كأن العقل مخلوق خبيث لاستخداميته. الحق مستحق للمهان إذا وضح عليه الحجة ولكن اختار غيرَها الذي لا يجد مصدرا قويا به. فذاك مستحق للمهان بأنه يتبع هواه بخيال يجعلهُ. ليس المهانة في العقل عينه.


الكتابة الرابعة : العقيدة والفقه كلاهما في نفس التعامل

التشدد في العقيدة والتسامح في الفقه ليس هذا الموقف من طريقة أهل السنة. لا يحل لكل امرئ أن يحكم بدون سلطان مبين. فمن ينسب قوله ورأيه إلى حجية الشريعة وهما لا يصيبان فهما مردودان ولا اعتبارلهما من خلافهما وإن كانا من الفقهاء العلماء الأكابر، بل يحتملان من البدع إن كان من أهل الأهواء والضلال. وذلك الخطأ لا يجوز لعمله ولا يتخذ اعتقادا مُوقَنا. فكيف نحسبه اختلافا مقبولا وهو لا أساس له في الثبوت؟ فيكف نعتمده بما قال الله وقال الرسول في شأن وهو لا يناسب في استدلاله واستنباطه ووجهما؟ أنبدل الرضى من الله والرسول بغيرهما بما خُدِعت جلالة الفقهاء والعلماء التي تُبالَغ؟ ألهم أكبر من الله ورسوله أو مساوية لهما حتى نقيم بناية من العمد الهاشّة؟ فلا تسامح في الخطأ الواضح الذي لا سبيل في شدة إنقاذه.


الكتابة الخامسة : ثبوتية رواية قول ابن عباس أن الكرسي موضع القدمين

قرأت كتابة التي أورد المؤلف تضعيف القول أن الكرسي موضع القدمين على تفسير قول ربنا عز وجل: "وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ" {سورة البقرة الآية 255} ههنا : http://elwahabiya.com/%D9%85%D9%86%D8%A7%D9%82%D8%B4%D8%A9-%D8%A3%D8%B3%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%AF-%D8%AD%D8%AF%D9%8A%D8%AB-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B1%D8%B3%D9%8A-%D9%85%D9%88%D8%B6%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%AF%D9%85/

ووافقت على التشكيك في ثبوت قول أبي موسى الأشعري. إنه قال لم يسمع عمارة بن عمير أبا موسى الأشعري، إنما يسمع ابنه، إبراهيم. فجاءت مشاكل في ثبوت هذه الرواية. هل هذا إنما أخطأ عمارة في التسمية؟ إن نصحح الاسم في هذا الإسناد أن عمارة قد أخذ من ابنه، ماذا ذريعتنا في نفي الشك أن هذا القول هو قول أبيه؟ إن نثب أنه من ابنه، لم لم نثبت أنه من أبيه إثباتا؟ ما ذريعتنا على رد على هذا الاحتمال؟ إذن، لا سبيل لنا أن نرد على هذا الاحتمال فيسقط ثبوت هذه الرواية.

فأما قول ابن عباس فما وافقته. إن الخطيب البغدادي أورد روايات في تاريخ بغداد عن ابن عباس عندما علل الرواية المرفوعة قد خالفها جماعة من الأثبات والحفاظ ولم يقل شيئا في تضعيف الرواية الموقوفة عن ابن عباس:

أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْمَالِكِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُظَفَّرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُجَاعُ بْنُ مَخْلَدٍ الْفَلاسُ فِي تَفْسِيرِهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ}، قَالَ: كُرْسِيُّهُ مَوْضِعُ قَدَمِهِ، وَالْعَرْشُ لا يُقْدَرُ قَدْرُهُ "، قَالَ ابْنُ الْمُظَفَّرِ: قَالَ لَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ شَيْخُنَا: هَكَذَا قَالَ لَنَا شُجَاعٌ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَوَاهُ أَبُو مُسْلِمٍ الْكَجِّيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ فَلَمْ يَرْفَعَاهُ. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَوَكِيعٌ جَمِيعًا عَنْ سُفْيَانَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ غَيْرَ مَرْفُوعٍ.

فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي مُسْلِمٍ الْكَجِّيِّ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ، فَأَخْبَرَنَاهُ أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ السَّوَّاقُ، قَالَ: أَخَبْرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُسْلِمٍ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ}، قَالَ: مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ، وَلا يَقْدُرُ عَرْشَهُ ". وَأَمَّا حَدِيثُ الرَّمَادِيِّ عَنْ كَذَلِكَ، فَأَخْبَرَنِيهِ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَلالُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ الْقَوَّاسُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْخَلالُ الدُّولابِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ سَيَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " الْكُرْسِيُّ مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ، وَالْعَرْشُ لا يَقْدُرُ قَدْرَهُ شَيْءٌ ".

وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ الَّذِي تَابَعَ فِيهِ أَبَا مُسْلِمٍ وَالرَّمَادِيَّ عَلَى رِوَايَتِهِمَا عَنْ أَبِي عَاصِمٍ، فَأَخْبَرَنِيهِ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَسْرُورٍ، قَالَ: قُرِئَ عَلَى الْقَاسِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَحَامِلِيِّ، وَأَنَا أَسْمَعُ، قِيلَ لَهُ: حَدَّثَكُمْ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " الْكُرْسِيُّ مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ، وَالْعَرْشُ لا يَقْدُرُ قَدْرَهُ إِلا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ". وَأَمَّا حَدِيثُ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ مِثْلُ رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ، فَأَخْبَرَنِيهِ الأَزْهَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدِ بْنُ حَرْبٍ الْقَاضِي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " الْكُرْسِيُّ مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ، وَالْعَرْشُ لا يَقْدُرُ أَحَدٌ قَدْرَهُ ". انتهى.

لقد صححه أيضا أبو سعيد الدارمي، قال في النقض حينما رد على المريسي: ثُمَّ انْتَدَبْتَ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ مُكَذِّبًا بِعَرْشِ اللهِ وَكُرْسِيِّهِ، مُطْنِبًا فِي التَّكْذِيبِ بِجَهْلِكَ، مُتَأَوِّلًا فِي تَكْذِيبِهِ بِخِلَافِ مَا تَعْقِلُهُ العُلَمَاءُ. فَرَوَيْتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَعلمه». قُلْتَ: فَمَعْنَى الكُرْسِيِّ: العِلْمُ، فَمَنْ ذَهَبَ فيه إِلَى غَيْرِ العِلْمِ أَكْذَبَهُ كِتَابُ الله تَعَالَى. فَيُقَالُ لِهَذَا المَرِيسِيِّ: أَمَّا مَا رَوَيْتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ جَعْفَرٍ الأَحْمَرِ، وَلَيْسَ جَعْفَرٌ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَى رِوَايَتِهِ، إِذْ قَدْ خَالَفَتْهُ الرُّوَاةُ الثِّقَاتُ المُتْقِنُونَ. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ البَطِينُ، عَنْ سَعِيدِ بن جُبَير، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الكُرْسِيِّ خِلَافَ مَا ادَّعَيْتَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. حَدثنَاه يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ مُسْلِمٍ البَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «الكُرْسِيُّ مَوْضِعُ القَدَمَيْنِ، والعَرْشُ لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ إِلَّا الله» 

وأما التشكيك بأن هؤلاء قد خالفها ما جاء في تفسير أبي جعفر الطبري الذي لم يقل مسلم البطين عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في إسناده وهو حدثنا أحمد بن إسحاق قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، عن سفيان، عن عمار الدهني، عن مسلم البطين قال: "الكرسي موضع القدمين" فلا يبالي به. فإنه خالفها الرواية الأخرى التي قد قال مسلم عن سعيد بن بن جبير، عن ابن عباس. وهو في تفسير ابن أبي حاتم الرازي حَدَّثَنَا أبو سعيد بن يحيى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، ثنا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عمار الدهني، عن مسلم البطين، عن سعيد ابن جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: الْكُرْسِيُّ: "مَوْضِعُ قَدَمَيْهِ".

فأين علة هذا التعارض؟ في أبي أحمد الزبيري. قال أحمد بن حنبل عنه كما أورد قوله الخطيب البغديد في التاريخ أنه كان كثير الخطإ في حديث سفيان. وهذه بينة على خطإهو أعني هو لا يضبط هل هي عن مسلم أم ابن عباس. والأئمة المتقنين لم يكونوا مثل ذلك. فلهذا لا يلتفت إلى ما خالفه الزبيري. لقد ثبتت هذه الرواية عن ابن عباس بدون الشك.


الكتابة السادسة : الذي لم يتكلم فيه السلف فهو خطأ؟

الكلام هذا خطأ باطل. من يعتقد هذا الرأي فقد وقع في الكفر والشرك ويبتدع المحدث المفترى في الدين. متى أقوال السلف ترفع إلى موضع كتاب الله والسنة؟ بين رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري أن البملَّغ يمكنه أوعى من الشاهد والمبلِّغ. فلا قيد في وقت أو زمن محددين لهذا الكون، بل هو مطلق ومنفتح على كل من يحي في أي العهد. وخطر هذا الرأي يبلغه إلى الكبر مِنْ أخذ الحق من المتأخرين ويخطّئهم على العذر أنه لم يتكلم فيه من السابقين دون النظر إلى استدلاله واستنباطه وقيام حجته من القرآن والسنة. وهذا واضح لنا أنه لا تسامح في هذا الرأي وهو خطأ فاحش غبي خبيث.


الكتابة السابعة : صحة مراسيل مالك بن أنس

وجدت الكتابة التي ضعفت رواية مالك لهذا الحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل : أيكون المؤمن جباناً؟ قال : نعم، ثم سُئل: أيكون المؤمن بخيلاً؟ قال:  نعم، ثم سُئل: أيكون المؤمن كذاباً؟ قال: لا. على أن كونه مرسل أو معضل بين صفوان بن سليم وبين النبي صلى الله عليه وسلم. ارجع ههنا : https://islamqa.info/ar/191543

لكن من ضعّف هذا الحديث على العذر أنه منقطع في إسناده فهو خطأ لأن مراسيل مالك صحيحة كما صحت مراسيل ابن المسيب. قال يحيى القطان حين سأله ابن المديني عن المقارنة في مراسيل بين مالك وبين ابن عيينة والثوري كما نقل ابن أبي حاتم الرازي في الجرح والتعديل: هي، يعني مراسيل مالك أحب الي، ثم قال: ليس في القوم أصح حديثا من مالك. فهذا رد على من يفعل ذلك. وكفانا بشهادة القطان في هذا الشأن. فأقول موطأ مالك كالصحيحين ومراسيله كالحديث المنقطع للبخاري في درجة. والله أعلم. 


الكتابة الثامنةالرد على الراد على الرأي في حل ما دون لحم الخنزير


قد قرأت المقالة الذي يرد الرأي في حل ما دون لحم الخنزير ههنا : http://www.ahl-alquran.com/arabic/show_article.php?main_id=5439

وجدت الخطئيْن الخطيرين في الرد حتى لا يقبل توضيح المؤلف للحجة. الأول في تعريف اللحم. أخذ المصطلح الطبي لحجية رئيسية في رده. هذا خطأ لأن المعنى لكلمة ينبغى له أن يرجع المعاجم توضح كلام العرب كلسان العرب لابن منظور أو منتخب من صحاح الجوهري أو مجمل اللغة لابن فارس أو غيرهم فإن القرآن يتكلم بلسانهم لا بلسان قسم العلم المخصص إلا إذا كان لها قرينة تتأول المعنى الظاهر. هلا يتفكر ساعة عنه أكان القرآن يفهم بالمصطلح الطبي أم لا؟ فلذلك، تعريفه مردود فأساعده في عرض المعنى لللحم. ولكن لم أجد المعاجم الأولى التي تعرفه واضحا وأجدها تقول "معلوم" دون أن تفصل منه شيئا. فبذلك، أرجع معجمين حديثين لأنهما قد فصلا معناه. فعرفه معجم اللغة العربية المعاصرة: "ما يكسو العظم من نسيج عضليّ وما يخالطه من دهن ونسيج ضامّ رخو في الحيوانات، وهي مادَّة حمراء رِخوة" وعرفه معجم الوسيط : "من جسم الْحَيَوَان وَالطير الْجُزْء العضلي الرخو بَين الْجلد والعظم". هذان لَردَّان على تعريف عرضه المؤلف أن اللحم يشمل كل شيء من الأعضاء. بل إن عرض المرء الشحوم على الناس ثم قال "هذا لحم" لأنكر الناس عليه! فأين عقله حينما يألف هذا المقالة؟

ثم الثاني لا يذهن المؤلف أن الأصل في الكلام الحقيقة وغفل عن أين شيء من المعنى الحقيقي والمعنى المجازي. الأصل في الكلام الحقيقة هو إذا قال الناس "أسد" فيعنون أسدا بالمعنى الحقيقي وكذلك غيره. هذا شأن لا ينكر عليه الناس بأن كلامنا عادةً وعرفًا يستمر أن يقصد المعنى الحقيقي الذي لا يعنى شيئا آخر كالمجاز أو الاستعارة أو غيرهما إلا أن يُعلَم القرينة تدل على المعنى آخر. وغفل هذا المؤلف عن أن يدقق أين شيء المعنى الحقيقي والمعنى المجازي. لا نفي أن القرآن قد يقصد اللحم كما عرض المؤلف الآيات عنه بكل قسم أعضاء. ولكنه على معنى المجاز المرسل بعلاقة الجزئية كقول "نشر الحاكم عيونه في المدينة" أي الجواسيس. هذا يعلم حين وضحت فيه القرينة. إن لم تضح فيستعمل معناه كما هو في عادة وعرف حقيقيًّا. ولماذا يستعمل القرآن اللحم؟ هذا لأنه شيء غالب أكله الناس. النادر علينا في علمنا أن الناس أكل شحوما أو دهنا أو غيرهما وإن كان موجودا. الاستعمال في شيء غالب لكان منهجا لازما في القرآن وهذا الشأن يعلمه من هو به عالم. فلذلك لا سبيل له في أن تساوى الآية في سياق الحقيقة بالآية في سياق المجاز. بعدما هذا التوضيح فلا حاجة لي أن أعترض كل واحد من الرد ويكفى لك بهذا لأنْ يبين الحق.


الكتابة التاسعة : تقسيم العورتين بدعة ضالة منكرة

تقسيم العورتين؛ العورة المخففة وهي فخذين وركبتين والعورة المغلظة وهي فرج فيُثْبَت أنَّ العورة المخففة مستحبة للستر والعورة المغلظة محرمة للإبداء هو بدعة ضالة منكرة. بالرغم على الحديث الذي رواه مسلم يذكر مجرد الفخذ  التي أبدأها رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس ذلك يمتنع جواز إبداء الفرجِ. العبرة تؤخذ من عموم كل جهة لا في خصوص سببه ولفظه. بالرغم أن النص يذكر اللفظ المعيَّن، فما ذلك المعين يوجب أخذ عمل بمجرد ذلك اللفظ إذا وضحت علة حكمه.

والإيضاح في أن الفخذ عورة إنه كائن في رواية مالك والترمذي والإيضاح في أن الفرج عورة كائن في رواية أحمد. كلاهما في نوع مستو ولا منع منهما في أخذ عموم عبرة رواية مسلم. فأما الرواية التي أوضحت أن ذلك العضو عورة قد وردت بالإسنادين المختلفين أو التحديثين المتفاوتين فلا توجب فيهما الحكم المختلف. وطريق الورود المختلف لا يتغيّر استنباطه واستدلاله.

قال بعض أن إبداء الفرج لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم. فليس هذا بمقبول. قد علم في القواعد الفقهية أن ما لم يفعله لا يدل على المنع والتحريم وخاصة أمور عادية إلا في أمور تعبدي الذي يجب على كل مسلم اقتداءه جميعها إذا أمرنا أن نفعل كما فعل مثل الصلاة والحج أو الذي جاء به التحريم وما كان فيه قرينة تعكس ثبوت عدم العلة أو الحكم المعين.

فالأصل في العورة يندب سترها. ثم ورد علينا أن النبي صلى الله عليه وسلم أبدى فخذيه وهي قد صرح أنها عورة في رواية مالك والترمذي. والفرج أيضا منها الذي يندب ستره لكن إبداءه لا بأس به بأنه تابع وجزء من العورات. فيكون إبداء الفرج إِذَنْ مثل إبداء الفخذ. 


الكتابة العاشرة : تحليل سورة النور الآية 31 في معنى الزينة وحكم إبداء العورة على غير ذى محرم

قال الله تعالى في سورة النور الآية 31: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖوَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ۖ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ ۚ وَتُوبُوا إِلَى اللَّـهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.

رأى بعض الناس أن الزينة ههنا ملحقات نسائية لبست في الأعضاء. بل، هذا الرأي لا يصح. انظر إلى كلمة "أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ". فاتضحت لنا أن الزينة هي أعضاء عينها لا غيرها بأن الله يأمر بغطوِ الزينة ثم يترابط الغطوُ بالعورة في نفس الآية. فلذلك التفسير في الزينة بعورة هو أقرب.

فأما إبداء العورة على غير ذي المحرم فذلك يؤذن بهذا الذكر: "أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ". في هذه، لا تخصيصَ موجودٌ فيها لذي محرم فيهما فقط وجاز الإبداء عليهما. ذلك أنهما ممن يأمنون من الفتنة لأجل عدم الشهوة فيهما. فبفهم علة جوازه هذه، فلذلك يؤذن إبداء العورة بغير مباشرة وإن كان أمام ذي الشهوة ما دامت العلة فيه تُدرَك.

العبرة تؤخذ بعموم كل جهة لا خصوص اللفظ والسبب مجردا إلا أن تدل إليه. إن كان النص المذكور بمعين فلا يلزم عمل العبرة المعينة بمجرد المذكور. بالرغم على النص قد ذكر التابعين والطفل، ذلك يتضمن علة تقيم الحكم فيه. المثال بالرغم أن المتموّرين غير أولى الإربة والملتقين بها لم يذكرا، العمل سواء بالتابعين لمساوية العلة تقيم فيه الحكم.


الكتابة الحادية عشرة : قواعد اللغة على المعدود ينعت بالعدد

إذا نظرتُ إلى الجواب من رجل لهذا السؤال فوجدت جوابه جازت موافقة النعت بالمنعوت أو مخالفته في التذكير والتأنيث أو بعبارة سهلة جاز أن نقول الصلوات الخمس أو الصلوات الخمسة وهلم جرا. ويقال أن هذا الرأي يتبعه بعض أصحاب اللغة. ولكن أخالفه لأنه لم يناسب قواعد اللغة في القرآن وجوازه شذ غريب خطئ لحن مردود. وقبل أن أجيب ما هو صحة له، أبين قواعده إذا نعت المعدود بالعدد.

إذا كان المعدود مفردا فنعته يتبع مذكره ومؤنثه. والتالي أمثال: طَعَامٍ وَاحِدٍ (سورة البقرة: 61)، كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً (سورة البقرة: 213)، نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ (سورة النساء :1)، لَا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ (سورة يوسف: 67)، بِمَاءٍ وَاحِدٍ (سورة الرعد: 4)، إِنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ (سورة النحل : 51)، ثُبُورًا وَاحِدًا (سورة الفرقان: 14)، جُمْلَةً وَاحِدَةً (سورة الفرقان: 32)، صَيْحَةً وَاحِدَةً (سورة يس: 29)، زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (سورة الصافات: 19)، نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ. (سورة ص: 15)، أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا (سورة القمر: 24)، نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (سورة الحاقة: 13)، دَكَّةً وَاحِدَةً (سورة الحاقة: 14)، زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ. (سورة النازعات: 14).

إن كان المعدود مثنى فقاعدته سواء كما بينت. والتالي أمثال : قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ. (سورة هود: 40)، جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ. (سورة الرعد: 3)، وَقَالَ اللَّـهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَـٰهَيْنِ اثْنَيْنِ. (سورة النحل: 16).

ولم أجد المثال في هذه القاعدة للتأنيث في القرآن والحديث. مهما كان ذلك، لا تبطل هذه القاعدة لأن الله يرشد إلينا غير مباشرة في بنائه. يلزم الله مستمرا على ما نعت الممدود المذكر بالعدد المذكر. لكن أمثلكم أمثالا ترتبط بالمؤنث لعلها تساعدكم ونحوها كالأستاذتان الاثنتين والسياراتان الاثنتين والساعتان الاثنتين.

فإن كان المعدود جمع فنعته يخالف مذكره ومؤنثه باعتبار ما كان للكلمة مفرد. إن كان المعدود مؤنث حينما فَرَدَ فنعته مذكر إذا جُمِع المعدود. وإن كان المعدود مذكر حينما فَرَدَ فنعته مؤنث إذا جمع المعدود. انظر هذين المثالين: فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ. (سورة الزمر: 6)، وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً. (سورة الواقعة: 7).

"ظلمات" هي جمع المؤنث السالم الملحق لكلمة "ظلمة" و"أزواج" هو جمع التكسير لكلمة "زوج". انظر إلى الفرق بينهما. فلا تستوي "ظلمات" و"أزواج" في نعتهما على تأنيثه وتذكيره لأن النعت هنا يعتبر في الكلمة ما كان لها مفرد. "ظلمة" هي مؤنثة وزوج هو مذكر.

فهذا السبب على الفرق بينهما فبهذا التبيين أيضا قد أجبتُ هذه المسألة. و"الصلوات" هنا هي مؤنثة حينما فَرَدَتْ، أي "الصلاة" و"فوائد" هنا هي مؤنثة حينما فَرَدَتْ أي "فائدة". فهذا قول أصح وأرجح وأفصح. والتالي أمثال أخرى لهذه القاعدة فلاحظوا مفرده ثم قيسوا: قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ (سورة المؤمنون: 86)، المذاهب الأربعة والأفعال الخمسة والأسماء الخمسة والكواعب الست.

ويجوز المعدود يُنْعت بالعدد على وزن "فاعل" كما قال الله تعالى: وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَىٰ. (سورة النجم: 31). فإن كنت مشكلا في كيف ننعت "منوات" على هذا الوزن؟ فأقول تنعتها ب"الثالثة" بأنها جمع غير عاقل فجاز أن تنعتها "الثالثات". والتالي أمثال ترتبط بهذه القاعدة: الرجال الثالوثون والنساء الرابعات والكلاب السادسة والمصابيح الثامنات.


الكتابة الثانية عشرة : مراد الترمذي في اصطلاح "صحيح" و"حسن"

الاصطلاح للترمذي في "حسن" و"صحيح" يكون مناقشة عظيمة بعد مناقشة منهج البخاري ومسلم في صحيحيهما. وهذا قد يغلّط الناس بما أراد به. وقد يكون الرجل يذكر أن الترمذي صحّح الحديث أو حسّنه كأن فهمه في ذينك الاصطلاحين كما فهمه الترمذي. بل، هذا الغلط قد يعمل خطأً بعض الناس حتى يستغل اصطلاح "صحيح" و"حسن" كأن ما اصطلحه المتأخرون بعده.

في عرض أن الحديث الضعيف يسير الضعف قد تقوى بانضمام طرق الروايات، نقل بعضهم تعريف الترمذي في حديث حسن عنده: "وما ذكرنا في هذا الكتاب حديث حسن، فإنما أردنا حسن إسناده عندنا. كل حديث يروى لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب ولا يكون الحديث شاذا ويروى من غير وجه نحو ذلك فهو عندنا حديث حسن"، ثم يقول في عرضه أن الترمذي فيه وافقه لأنه يظن أن الحديث المذكور بالحديث الحسن هو سالم من الشاذ ولا يكون فيه متهم قد روي من غر وجه حتى يحسب أنه يقوى بوجود المتابعة من الرواية الأخرى فيكون حسن إسناده.

بل ليس في الواقع بذلك. ولنعلم أن أعدادا من الأحاديث التي قال فيه "حسن صحيح" أو "حسن صحيح غريب" يوجد أنه يعللها. هذه أمثلتها :

حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: عَطَسَ رَجُلٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا شَاهِدٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَرْحَمُكَ اللَّهُ»، ثُمَّ عَطَسَ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا رَجُلٌ مَزْكُومٌ»: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ» حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ لَهُ فِي الثَّالِثَةِ: «أَنْتَ مَزْكُومٌ». «هَذَا أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ المُبَارَكِ» وَقَدْ رَوَى شُعْبَةُ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، هَذَا الحَدِيثَ نَحْوَ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا بِذَلِكَ أَحْمَدُ بْنُ الحَكَمِ البَصْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، بِهَذَا وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، نَحْوَ رِوَايَةِ ابْنِ المُبَارَكِ، وَقَالَ لَهُ فِي الثَّالِثَةِ: «أَنْتَ مَزْكُومٌ» حَدَّثَنَا بِذَلِكَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ [سنن الترمذي، رقم: 2686].

في هذا، علل متن حديث ابن المبارك في ذكر الثانية. والحديث في قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي يرجع إلى الغيبية قد خالف الحديث الذي يرجع إلى الخطابية.

حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ سَالِمٍ ، وَحَمْزَةَ ، ابني عبد الله بن عمر ، عَنْ أَبِيهِمَا ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : " الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثَةٍ : فِي الْمَرْأَةِ ، وَالْمَسْكَنِ ، وَالدَّابَّةِ " ، قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ لَا يَذْكُرُونَ فِيهِ عَنْ حَمْزَةَ ، إِنَّمَا يَقُولُونَ عَنْ سَالِمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهَكَذَا رَوَى لَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ هَذَا الْحَدِيثَ ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ سَالِمٍ ، وَحَمْزَةَ ، ابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ أَبِيهِمَا ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيُّ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ سَالِمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ حَمْزَةَ ، وَرِوَايَةُ سَعِيدٍ أَصَحُّ ، لِأَنَّ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ ، وَالْحُمَيْدِيَّ رَوَيَا عَنْ سُفْيَانَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ سَالِمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، وَذَكَرَا عَنْ سُفْيَانَ ، قَالَ : لَمْ يَرْوِ لَنَا الزُّهْرِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَّا عَنْ سَالِمٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، وَرَوَى مَالِكٌ بْنُ أَنَسٍ هَذَا الْحَدِيثَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، وَقَالَ : عَنْ سَالِمٍ ، وَحَمْزَةَ ابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ أَبِيهِمَا ، وَفِي الْبَابِ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ، وَعَائِشَةَ ، وَأَنَسٍ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ : " إِنْ كَانَ الشُّؤْمُ فِي شَيْءٍ فَفِي الْمَرْأَةِ وَالدَّابَّةِ وَالْمَسْكَنِ " . [سنن الترمذي، رقم: 2768].

في هذا، علل زيادة حمزة لأنها غير ثابتة.

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ القَضَاءِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ يَمْشِي وَهُوَ يَقُولُ: خَلُّوا بَنِي الكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ # اليَوْمَ نَضْرِبْكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ # ضَرْبًا يُزِيلُ الهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ # وَيُذْهِلُ الخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ # فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا ابْنَ رَوَاحَةَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي حَرَمِ اللَّهِ تَقُولُ الشِّعْرَ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَلِّ عَنْهُ يَا عُمَرُ، فَلَهِيَ أَسْرَعُ فِيهِمْ مِنْ نَضْحِ النَّبْلِ»: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ» وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، هَذَا الحَدِيثَ أَيْضًا عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، نَحْوَ هَذَا، وَرُوِيَ فِي غَيْرِ هَذَا الحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ القَضَاءِ وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ بَيْنَ يَدَيْهِ» وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الحَدِيثِ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ قُتِلَ يَوْمَ مُؤْتَةَ، وَإِنَّمَا كَانَتْ عُمْرَةُ القَضَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ " [سنن الترمذي، رقم: 2847].

في هذا، علل البدل في ذكر اسم الصحابي رضي الله عنه

حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَسَامَةَ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ البَرَاءِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْصَرَ حَسَنًا وَحُسَيْنًا فَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا»: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ». حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: سَمِعْتُ البَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ، يَقُولُ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاضِعًا الحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عَلَى عَاتِقِهِ وَهُوَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ»: «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ الفُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ» [سنن الترمذي، رقم: 3744].

الظاهر منه تعليله متن حديث فضيل بن مرزوق. هكذا حديث شعبة الذي رواه البخاري في رقم 3849.

وقد يكون الحديث الذي قال فيه "حسن صحيح" علةً فيه عند تقاطع التحليل.

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو الرَّقِّيُّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ قَالَ فِي دُبُرِ صَلاَةِ الفَجْرِ وَهُوَ ثَانٍ رِجْلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ، كُتِبَتْ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَمُحِيَ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ، وَرُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ، وَكَانَ يَوْمَهُ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي حِرْزٍ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ، وَحُرِسَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَلَمْ يَنْبَغِ لِذَنْبٍ أَنْ يُدْرِكَهُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ إِلاَّ الشِّرْكَ بِاللَّهِ. هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. [سنن الترمذي، رقم: 3704].

لهذا الحديث، أورد الدارقطني تنوع طرق الأسانيد عن شهر بن حوشب ليبدي وجود العلة :

وَسُئِلَ عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غُنْمٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَالَ فِي دُبُرِ صَلَاةِ الْفَجْرِ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ... الْحَدِيثَ. فَقَالَ: يَرْوِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، وَاخْتُلِفَ عَنْهُ؛ فَرَوَاهُ زَيْدُ بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ عَنْهُ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنِ ابْنِ غَنْمٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ. وَخَالَفَهُ حُصَيْنُ بْنُ مَنْصُورٍ الأسدي كوفي، فَرَوَاهُ، عَنِ ابْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، عَنْ شَهْرٍ، عَنِ ابْنِ غَنْمٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ. وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ جُحَادَةَ، وَاخْتُلِفَ عَنْهُ؛ فَرَوَاهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ حُصَيْنٍ، عَنِ ابْنِ جُحَادَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنِ ابْنِ غَنْمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَخَالَفَهُ زُهَيْرٌ، فَرَوَاهُ عَنِ ابْنِ جُحَادَةَ، عَنْ شَهْرٍ، عَنِ ابْنِ غَنْمٍ مُرْسَلًا. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَهَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، عن ابن أبي حسين، عن شهر، عن ابْنِ غَنْمٍ مُرْسَلًا. وَخَالَفَ الْجَمَاعَةَ عَبْدُ الْحَمِيدِ بن بهرام، فرواه عن شهر بن حوشب، عن أم سَلَمَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَ ذَلِكَ الْقَوْلَ ابْنَتَهُ فَاطِمَةَ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الِاضْطِرَابُ فِيهِ مِنْ شَهْرٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالصَّحِيحُ عَنِ ابْنِ أَبِي حُسَيْنٍ الْمُرْسَلُ ابْنِ غَنْمٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. [العلل الواردة في في الأحاديث النبوية، ج. 16، ص. 247-248].

وفي اصطلاح "حسن"، لو أراد به أن الحديث في درجة الحسن كما اصطلحه المتأخرون بعده، فليس بالصواب حقا. من الأحاديث التي قال فيه "حسن" يوجد أنه قد علله نفسه. إما كونه انقطاع السند مثل التالي :

حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ الأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ وَجِيءَ بِالأُسَارَى، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَقُولُونَ فِي هَؤُلَاءِ الأُسَارَى» فَذَكَرَ قِصَّةً فِي هَذَا الحَدِيثِ طَوِيلَةً: وَفِي البَاب عَنْ عُمَرَ، وَأَبِي أَيُّوبَ، وَأَنَسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَأَبُو عُبَيْدَةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ وَيُرْوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ مَشُورَةً لِأَصْحَابِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [سنن الترمذي، رقم: 1633].

أبو عبيدة ههنا هو ابن عبد الله بن مسعود. قد صرح شعبة وأبو حاتم الرازي أنه لم يسمع منه كما أورد ابن أبي حاتم الرازي في المراسيل، ص. 256-257

حَدَّثَنَا الأَنْصَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْنٌ قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ عَبْدِ الحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ الجُهَنِيِّ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ، سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172] وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْأَلُ عَنْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ، فَأَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ يَعْمَلُونَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ "، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَفِيمَ العَمَلُ؟ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ إِذَا خَلَقَ العَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيُدْخِلَهُ اللَّهُ الجَنَّةَ، وَإِذَا خَلَقَ العَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ، فَيُدْخِلَهُ اللَّهُ النَّارَ»: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَمُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُمَرَ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الإِسْنَادِ بَيْنَ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ وَبَيْنَ عُمَرَ رَجُلًا» [سنن الترمذي، رقم: 3020].

حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الحُلْوانِيُّ، المَعْنَى وَاحِدٌ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا قَدْ أُوتِيتُ مِنْ جِمَاعِ النِّسَاءِ مَا لَمْ يُؤْتَ غَيْرِي، فَلَمَّا دَخَلَ رَمَضَانُ تَظَاهَرْتُ مِنْ امْرَأَتِي حَتَّى يَنْسَلِخَ رَمَضَانُ فَرَقًا مِنْ أَنْ أُصِيبَ مِنْهَا فِي لَيْلَتِي فَأَتَتَابَعَ فِي ذَلِكَ إِلَى أَنْ يُدْرِكَنِي النَّهَارُ وَأَنَا لَا أَقْدِرُ أَنْ أَنْزِعَ، فَبَيْنَمَا هِيَ تَخْدُمُنِي ذَاتَ لَيْلَةٍ إِذْ تَكَشَّفَ لِي مِنْهَا شَيْءٌ فَوَثَبْتُ عَلَيْهَا، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ غَدَوْتُ عَلَى قَوْمِي فَأَخْبَرْتُهُمْ خَبَرِي فَقُلْتُ: انْطَلِقُوا مَعِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُخْبِرَهُ بِأَمْرِي، فَقَالُوا: لَا وَاللَّهِ لَا نَفْعَلُ، نَتَخَوَّفُ أَنْ يَنْزِلَ فِينَا قُرْآنٌ أَوْ يَقُولَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَةً يَبْقَى عَلَيْنَا عَارُهَا، وَلَكِنْ اذْهَبْ أَنْتَ فَاصْنَعْ مَا بَدَا لَكَ. قَالَ: فَخَرَجْتُ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي، فَقَالَ: «أَنْتَ بِذَاكَ؟» قُلْتُ: أَنَا بِذَاكَ. قَالَ: «أَنْتَ بِذَاكَ؟» قُلْتُ: أَنَا بِذَاكَ. قَالَ: «أَنْتَ بِذَاكَ؟» قُلْتُ: أَنَا بِذَاكَ، وَهَا أَنَا ذَا فَأَمْضِ فِيَّ حُكْمَ اللَّهِ فَإِنِّي صَابِرٌ لِذَلِكَ. قَالَ: «أَعْتِقْ رَقَبَةً». قَالَ: فَضَرَبْتُ صَفْحَةَ عُنُقِي بِيَدِي، فَقُلْتُ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ مَا أَصْبَحْتُ أَمْلِكُ غَيْرَهَا. قَالَ: «فَصُمْ شَهْرَيْنِ». قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ أَصَابَنِي مَا أَصَابَنِي إِلَّا فِي الصِّيَامِ. قَالَ: «فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا»: قُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ لَقَدْ بِتْنَا لَيْلَتَنَا هَذِهِ وَحْشَى، مَا لَنَا عَشَاءٌ. قَالَ: «اذْهَبْ إِلَى صَاحِبِ صَدَقَةِ بَنِي زُرَيْقٍ، فَقُلْ لَهُ فَلْيَدْفَعْهَا إِلَيْكَ فَأَطْعِمْ عَنْكَ مِنْهَا وَسْقًا سِتِّينَ مِسْكِينًا، ثُمَّ اسْتَعِنْ بِسَائِرِهِ عَلَيْكَ وَعَلَى عِيَالِكَ» قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى قَوْمِي، فَقُلْتُ: وَجَدْتُ عِنْدَكُمُ الضِّيقَ وَسُوءَ الرَّأْيِ، وَوَجَدْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّعَةَ وَالبَرَكَةَ، أَمَرَ لِي بِصَدَقَتِكُمْ فَادْفَعُوهَا إِلَيَّ فَدَفَعُوهَا إِلَيَّ: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ» قَالَ مُحَمَّدٌ: " سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ لَمْ يَسْمَعْ عِنْدِي مِنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ، وَيُقَالُ: سَلَمَةُ بْنُ صَخْرٍ، وَسَلْمَانُ بْنُ صَخْرٍ " وَفِي البَابِ عَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ وَهِيَ امْرَأَةُ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ [سنن الترمذي، رقم: 3240].

وإما كونه خالف الأصح منه :

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ يُحَدِّثُ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا تَصَدَّقَتِ المَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا كَانَ لَهَا بِهِ أَجْرٌ، وَلِلزَّوْجِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَلَا يَنْقُصُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ أَجْرِ صَاحِبِهِ شَيْئًا، لَهُ بِمَا كَسَبَ، وَلَهَا بِمَا أَنْفَقَتْ»: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ». حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا المُؤَمَّلُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَعْطَتِ المَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا بِطِيبِ نَفْسٍ غَيْرَ مُفْسِدَةٍ، كَانَ لَهَا مِثْلُ أَجْرِهِ، لَهَا مَا نَوَتْ حَسَنًا، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ»: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَهَذَا أَصَحُّ، مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، وَعَمْرُو بْنُ مُرَّةَ لَا يَذْكُرُ فِي حَدِيثِهِ عَنْ مَسْرُوقٍ». [سنن الترمذي، رقم: 607-608].

حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ أَسْلَمَ البَغْدَادِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحْرَمَ بِالحَجِّ وَالعُمْرَةِ، أَجْزَأَهُ طَوَافٌ وَاحِدٌ، وَسَعْيٌ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا»: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ تَفَرَّدَ بِهِ الدَّرَاوَرْدِيُّ عَلَى ذَلِكَ اللَّفْظِ، وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَلَمْ يَرْفَعُوهُ وَهُوَ أَصَحُّ [سنن الترمذي، رقم: 869].

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الأَرْضِ: اللَّهُ اللَّهُ ": هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الحَارِثِ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، نَحْوَهُ وَلَمْ يَرْفَعْهُ وَهَذَا أَصَحُّ مِنَ الحَدِيثِ الأَوَّلِ [سنن الترمذي، رقم: 2137].

حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الوَارِثِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يَجِيءُ القُرْآنُ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ حَلِّهِ، فَيُلْبَسُ تَاجَ الكَرَامَةِ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ زِدْهُ، فَيُلْبَسُ حُلَّةَ الكَرَامَةِ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ ارْضَ عَنْهُ، فَيَرْضَى عَنْهُ، فَيُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ وَارْقَ، وَيُزَادُ بِكُلِّ آيَةٍ حَسَنَةً ": «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ» حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَاصِمِ ابْنِ بَهْدَلَةَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، نَحْوَهُ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ.: «وهَذَا أَصَحُّ عِنْدَنَا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الصَّمَدِ، عَنْ شُعْبَةَ» [سنن الترمذي، رقم: 2858].

بل، هناك أحاديث قال فيها "حسن" وهو نفسه ضفعها :

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ: أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ مَيْمُونٍ الأَنْصَارِيُّ، عَنْ القَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ، وَاجْعَلُوهُ فِي المَسَاجِدِ، وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفُوفِ»: «هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ حَسَنٌ فِي هَذَا البَابِ،» وَعِيسَى بْنُ مَيْمُونٍ الأَنْصَارِيُّ يُضَعَّفُ فِي الحَدِيثِ، وَعِيسَى بْنُ مَيْمُونٍ الَّذِي يَرْوِي، عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ التَّفْسِيرَ هُوَ ثِقَةٌ [سنن الترمذي، رقم: 1005].

تضعيف الترمذيِّ عيسى بن ميمون الأنصاريَّ ليس بالانفراد. قال يحيى بن معين "ليس بشيء". وقال البخاري "منكر الحديث". قد أوردهما أبو جعفر العقيلي في الضعفاء الكبير، ج. 3، ص. 387، إصدار دار المكتبة العلمية، تحقيق عبد المعطي أمين قلعجي. وضعفه أبو حاتم الرازي. وقال عمرو بن علي وأبو زرعة الرازي: "ضعيف جدا". وقد أورد هذه الأقوال ابن أبي حاتم الرازي في الجرح والتعديل، ج. 6، ص. 287. وقال النسائي في الضعفاء والمتروكون، ص. 16، إصدار دار الوعي، حلب، تحقيق محمود إبراهيم زايد "متروك الحديث". وضعفه البيهقي في السنن الكبرى، ج. 2، ص. 321، إصدار دار الكتب العلمية، تحقيق محمد عبد القادر عطا. وقال يعقوب بن سفيان الفارسي في المعرفة والتاريخ، ج. 3، ص. 138، إصدار مؤسسة الرسالة، تحقيق أكرم ضياء العمري "منكر الحديث".

حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ المُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زَحْرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ القَاسِمِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ أَغْبَطَ أَوْلِيَائِي عِنْدِي لَمُؤْمِنٌ خَفِيفُ الْحَاذِ ذُو حَظٍّ مِنَ الصَّلَاةِ، أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ وَأَطَاعَهُ فِي السِّرِّ، وَكَانَ غَامِضًا فِي النَّاسِ لَا يُشَارُ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ، وَكَانَ رِزْقُهُ كَفَافًا فَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ»، ثُمَّ نَقَرَ بِإِصْبَعَيْهِ فَقَالَ: «عُجِّلَتْ مَنِيَّتُهُ قَلَّتْ بَوَاكِيهِ قَلَّ تُرَاثُهُ» وَبِهَذَا الإِسْنَادِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي لِيَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكَّةَ ذَهَبًا، قُلْتُ: لَا يَا رَبِّ وَلَكِنْ أَشْبَعُ يَوْمًا وَأَجُوعُ يَوْمًا ء أَوْ قَالَ ثَلَاثًا أَوْ نَحْوَ هَذَا ء فَإِذَا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَذَكَرْتُكَ، وَإِذَا شَبِعْتُ شَكَرْتُكَ وَحَمِدْتُكَ «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ» وَفِي البَابِ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ " وَالقَاسِمُ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَيُكْنَى أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَيُقَالُ أَيْضًا: يُكْنَى أَبَا عَبْدِ المَلِكِ وَهُوَ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ شَامِيٌّ ثِقَةٌ، وَعَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ وَيُكْنَى أَبَا عَبْدِ المَلِكِ " [سنن الترمذي، رقم: 2881].

وهذا أيضا ليس من انفراده في تضعيفه علي بن يزيد بن أبي هلال. لقد تابعه النقاد الكثيرة في تجرحيهم عليه.

فلهؤلاء، ما مراده في الاصطلاحين؟

إن نظرنا نظرا جيدا، لا يشترط أن الحديث الحسن عنده هو سالم من الراوي الضعيف أو أن لا تكون فيه علة أو زلة ضعفه، فترتفع درجته بكونه حسنا فيما تابعت رواية أخرى. فلذلك، لا يسغربْ أحد إذا قال فيه "حسن" وفيه راو ضعيف أو علة. والحقيقة، لم يفهم ذلك الحسن مثل ما اصطلحه من بعده. وكفى بنا أن نقتصر على ما بينه. فلا غلط لنا إذا نتعامل مع كلامه.

وأما الصحيح فعندي ملخصا الحديث الذي وفت شروط صحة الحديث الأربعة وهو اتصال السند بنقل عادل ضابط عن عادل ضابط إلى صاحب الكلام دون شاذ. ولا يشترط أنه سالم من علة. وقد عرض برهانه. فبعد هذا، إذا وجد قول الترمذي فيه "حديث صحيح"، لا يسغربْ إذا كان فيه علة أو وجدها عند تقاطع التحليل. والصواب، ليس هو لم يعلم أن فيه علة، بل من فهم على خطأ يظن أنه يصحح حديثا يكون فيه علة.


الكتابة الثالثة عشرة : إن الله جالس على العرش

قال الله عز وجل:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه الآية 5]
كان في كلمة استوى المقيد بحرف "على" معنيان غالبان.

الأول: علا وهو ما ذهب كثير من العلماء. قال أبو الحسن علي بن محمد بن مهدي الطبري: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي السَّمَاءِ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ عَالٍ عَلَيْهِ، وَمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ: الِاعْتِلَاءُ، كَمَا يَقُولُ: اسْتَوَيْتُ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ، وَاسْتَوَيْتُ عَلَى السَّطْحِ. بِمَعْنَى عَلَوْتُهُ، وَاسْتَوَتِ الشَّمْسُ عَلَى رَأْسِي، وَاسْتَوَى الطَّيْرُ عَلَى قِمَّةِ رَأْسِي، بِمَعْنَى عَلَا فِي الْجَوِّ، فَوُجِدَ فَوْقَ رَأَسِي. [الأسماء والصفات للبيهقي، ج. 2، ص. 378].

الثاني: استقر. قال البغوي في تفسيره: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: اسْتَقَرَّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: صَعَدَ. وقال ابن قتيبة في الاختلاف في اللفظ: : وقالوا في قوله: {الرحمن على العرش استوى} أنه استولى وليس يعرف في اللغة استويت على الدار: أي استوليت عليها وإنما استوى في هذا المكان: استقر كما قال الله تعالى: {فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك} أي استقررت وقد يقول الرجل لصاحبه إذا رآه مستوفزاً (استو) يريد: استقر.

لا يتضادان هما في المعنى، ، بل يتقاربان. إنما مسألته من أين يوجب كلاهما معنى جلس أو قعد؟ فالجواب هو في معنى العرش نفسه الذي يحمل معنى المجلس.

قال الله تبارك وتعالى: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِي} [سورة النمل الآية 23].

ومعنى العرش هو ما قال أبو جعفر الطبري في تفسيره: وقوله (وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ) يقول: ولها كرسي عظيم.

وقال أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي في التفسير البسيط: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} قال ابن عباس: يريد: سريرًا من ذهب تجلس عليه

.وأورد أبو الحسن علي بن محمد الماوردي في تفسيره الأقوال في ذلك: فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنه السرير، قاله قتادة. الثاني: أنه الكرسي، قاله سفيان. الثالث: المجلس، قاله ابن زيد. الرابع: الملك، قاله ابن بحر.

بل هذا مقرّر في معنى لغوي. قال فخر الدين الرازي في التفسير الكبير: ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَ الْحَسَنُ الْكُرْسِيُّ هُوَ نَفْسُ الْعَرْشِ، لِأَنَّ السَّرِيرَ قَدْ يُوصَفُ بِأَنَّهُ عَرْشٌ، وَبِأَنَّهُ كُرْسِيٌّ، لِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحَيْثُ يَصِحُّ التَّمَكُّنُ عَلَيْهِ.

وقال: الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَقَالَ: الْعَرْشِ فِي كَلَامِهِمْ هُوَ السَّرِيرُ الَّذِي يَجْلِسُ عَلَيْهِ الْمُلُوكُ.

وأورد أيضا معناه ابن منظور في لسان العرب: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنه قَالَ: الْكُرْسِيُّ مَوْضِعُ القدَمين والعَرْش لَا يُقدَر قدرُه ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنه قَالَ: العَرْش مجلِس الرَّحْمَنِ.

كذا ما فسر المفسرون أن العرش هو السرير، يعنى سرير الملك.

الآن إذا كان معنى العرش هو السرير فيناسب معنى الجلوس. إن استوى على الدابة فقلنا ركب. إن استوى الطير على الشجرة فقلنا وقف. هكذا مناسبته. فلا يحتمل أنه قائم أو مضطجع أو غيرهما إذا كان في مجلس. فاذا كان في مجلس، ففهم أن معناه جلوس كلما أضيف ذلك الفعل إلى مجلس.

وهذا المعنى قد قرره أهل التفسير. قال أبو الحسن علي بن محمد الواحدي في التفسير البسيط: قولُ اللهِ عز وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ، احتمل في اللغة أنْ يكونَ كاستواءِ الجالِسِ على سَرِيرِهِ، واحتَمَلَ أن يكون بمعنى الاستيلاءِ؛ وأحَدُ الوَجْهَيْنِ لا يجوز على الله؛ لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11].

وقال فخر الدين الرازي في التفسير الكبير: فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَهُ جَالِسًا عَلَى الْعَرْشِ لَيْسَ مِنْ دَلَائِلِ إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ وَالذَّاتِ ولا من صفات المدح الثناء فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ كَوْنَهُ جَالِسًا عَلَى الْعَرْشِ لَكَانَ ذَلِكَ كَلَامًا أَجْنَبِيًّا عَمَّا قَبْلَهُ وَعَمَّا بَعْدَهُ وَهَذَا يُوجِبُ نِهَايَةَ الرَّكَاكَةِ.

مهما لم يقرر أن معنى الجلوس لا يليق به لله، فلم ينكرانه في اللغوي. بل قد أقام فخر الدين الرازي في نفس المرجع عشرة الأسباب بأنه لله لا يُثْبَت ولكن ليس فيه أنه في لغوي خطأ. إنما لم يقبل إثباته لله صفة.

وقد وافقته أن الله ليس بجسم ولا كونه في مكان ولا متحرك. فإنه ما كان عليه السلف. ولكن فهموا في نصوص صفات الله معنى ظاهرا. هذا قد بيّنه بأحسنِ بيانٍ أيمنُ بن سعود العنقري في أقوال أئمة السنة في نقص بدعة التفويض في الصفات. فانظر إليه كي يضح لك أن السلف كان فهموا معنى ظاهرا وحقيقة معنوية. وإنما أثبتوه بما يليق لله به وينفون فيه عناصر مخلوقة كجسم ومماسة وتحرك وانتقال وغيرهم. بكلمة أخرى إنهم يثبتون صفة اليدين لله لا يثبتون له عضوا اليدين. كذا جرى مجراه في الاثبات.


الكتابة الرابعة عشرة : إثبات الصوت والحرف لكلام الله

قال الله عز وجل : {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [سورة النساء الآية 165].

"تكليما" ههنا مفعول مطلق لتحقق الفعل تأكيدا أن تكليم الله موسى دون واسطة. وبكلمة أخرى إن ما سمعه موسى عليه السلام هو كلام الله نفسه لا حكاية ولا عبارة سردتا في الفؤاد ولا صوت حادث أحدثه الله أو أي اسم يقتضى واسطة في حمل كلام الله على موسى.

بل، معنى الكلام عند لسان العرب هو لفظ مركبت مفيد. وهذا معلوم ضروري في علم النحو. فإذا كان مجرد صيح أو إعوال أو رغاء أو لحن صوت بصدفة فليسوا أبدا بكلام. لا يجوز قولنا أن وعي الكلب هو كلام الكلب. هذا باطل فاحش.

وقال الله تبارك وتعالى : وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ [سورة طه الآية 13].

اختار الحكيم تبارك وتعالى كلمة "استمع" واستعملها واضحة أنها تدل على إدراك السمع وهو الصوت. فلذلك يرى المؤمن في يوم الآخرة ذات ربه ذا الجلال والإكرام لا يسمع ذاته. والمؤمن سوف يسمع كلامه لا يرى كلامه. لقد تفارقا تفارقا. وعلى ذلك لا يجوز تأوله إلى معنى آخر دون ما أدركه السمع وهو الصوت.

وقال الله: {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [سورة النازعات الآية 16].

قال ابن منظور في لسان العرب: والنَّداءُ والنُّداء الصوت مثل الدُّعاء والرُّغاء وقد ناداه ونادى به وناداه مُناداة ونِداء أَي صاح به. انتهى. اتضح لنا من هذا أن النداء يكون بصوت.

ثم، إذا وكد الله فعله بالمصدر فاستمعل المعنى الحقيقي. فأما الكلام الذي ليس بحروف وصوت فهو غير معنى حقيقي. فلذلك لا يقبل القول بأن كلام الله دون حرف وصوت.

وأخيرا، ننظر إلى أقوال العلماء في إثبات الحروف والصوت لكلام الله تحقيقا صدورنا في سلوك ينبغي لنا أن نسلك مسلكه.

الأول، قال خلف بن خليفة: عَنْ وَائِلِ بْنِ دَاوُدَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] قَالَ: «مُشَافَهَةً مِرَارًا» [السنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل].

الثاني، قال عبد الله بن أحمد بن حنبل في السنة: سَأَلْتُ أَبِي رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ قَوْمٍ، يَقُولُونَ: لَمَّا كَلَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مُوسَى لَمْ يَتَكَلَّمْ بِصَوْتٍ فَقَالَ أَبِي: «بَلَى إِنَّ رَبَّكَ عَزَّ وَجَلَّ تَكَلَّمَ بِصَوْتٍ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ نَرْوِيهَا كَمَا جَاءَتْ». وَقَالَ أَبِي رَحِمَهُ اللَّهُ: «حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ» إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ سُمِعَ لَهُ صَوْتٌ كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفْوَانِ " قَالَ أَبِي: وَهَذَا الْجَهْمِيَّةُ تُنْكِرُهُ وَقَالَ أَبِي: هَؤُلَاءِ كُفَّارٌ يُرِيدُونَ أَنْ يُمَوِّهُوا عَلَى النَّاسِ، مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَتَكَلَّمْ فَهُوَ كَافِرٌ، أَلَا إِنَّا نَرْوِي هَذِهِ الْأَحَادِيثَ كَمَا جَاءَتْ.

الثالث، قال البخاري في خلق أفعال العباد: وَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّ صَوْتَ اللَّهِ لَا يُشْبِهُ أَصْوَاتَ الْخَلْقِ، لِأَنَّ صَوْتَ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ يُسْمَعُ مِنْ بُعْدٍ كَمَا يُسْمَعُ مِنْ قُرْبِ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ يُصْعَقُونَ مِنْ صَوْتِهِ، فَإِذَا تَنَادَى الْمَلَائِكَةُ لَمْ يُصْعَقُوا، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلِّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 22] فَلَيْسَ لِصِفَةِ اللَّهِ نِدٌّ، وَلَا مِثْلٌ، وَلَا يوجدُ شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِهِ فِي الْمَخْلُوقِينَ".

الرابع، قال أبو سعيد الدارمي في نقض على المريسي: فَقَدْ أَدْرَكَ مِنْهُ مُوسَى فِي الدُّنْيَا الصَّوْتَ، وَالكَلَامَ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الحَوَاسِّ، قَالَ الله تَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164].

الخامس، قد وضع ابن أبي عاصم الباب في السنة له يسمى: "بَابُ ذِكْرِ الْكَلَامِ وَالصَّوْتِ وَالشَّخْصِ وَغَيْرِ ذَلِكَ".

تنبيه: ربما سئل لما لم يصرح السلف بإثبات الحرف لكلام الله؟ أقول لأنه قد وضح في معنى الكلام نفسه عند اللسان العربي حتى لا يحتاج إلى التصريح به. كذا في زيادة "بذاته" في صفات الله أخرى كالسمع والبصر وغيرهما. فإنه لا حاجة في ذكرها لأن كلها مضافة إلى الذات وفعل السمع والبصر وغيرهما هو من ذاته حتى يستغني عن ذكر "سمع بذاته" أو ما أشبهه.

السادس، قد كتب أبو نصر السجزي في الرد على من أنكر أن لكلام الله صوت وحرف في رسالته، أي رسالة السجزي إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت.

السابع، قال أبو القاسم الأصبهاني في الحجة في بيان المحجة: فصل الدَّلِيل عَلَى أَن الْقُرْآن منزل. وَهُوَ مَا يقرأه الْقَارئ خلافًا لمن يَقُول كَلَام الله لَيْسَ بمنزل، وَلَا حرف، وَلَا صَوت. فَإِن قيل: الْمُتَكَلّم بِحرف وَصَوت يحْتَاج إِلَى أدوات الْكَلَام، فَقل: عدم أَدَاة الْكَلَام لَا يمْنَع من ثُبُوت الْكَلَام، كَمَا أَن عدم آلَة الْعلم لَا يمْنَع من ثُبُوت الْعلم. دَلِيل أهل السّنة: قَوْله تَعَالَى {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَام الله} والمسموع إِنَّمَا هُوَ الْحَرْف وَالصَّوْت، لِأَن الْمَعْنى: لَا يسمع، بل يفهم. يُقَال فِي اللُّغَة: سَمِعت الْكَلَام وفهمت الْمَعْنى، فَلَمَّا قَالَ: حَتَّى يسمع: دلّ أَنه حرف وَصَوت.

في نفي الحرف والصوت لله لأنه يقتضي أن الله يفتقر إلى واسطة كي يظهر كلامه. قولهم إن الصوت هو مآل ارتجاج ذرات والحرف هو صور معينة لكي تبدو كلمة والله هو القيوم الغني عن واسطة. فأقول إن كان كذلك، أخلق الله يفتقر إلى واسطة لكي يباين سائر مخلوقات؟ أم خلقها الله في نفسه؟ سبحان الله عن المنازعة مثل هذا. وكفى بنا الاثبات كما أخبرنا بلا تشبيه ولا تكييف.

الثامن، أرد الذهبي في العلو للعلي الغفار قصة أبي المعالي أسعد بن المنجا، فقال: من كنت يَوْمًا عِنْد الشَّيْخ أبي الْبَيَان رَحمَه الله تَعَالَى فَجَاءَهُ ابْن تَمِيم الَّذِي يَدعِي الشَّيْخ الْأمين فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ بعد كَلَام جرى بَينهمَا وَيحك الْحَنَابِلَة إِذا قيل لَهُم مَا الدَّلِيل على أَن الْقُرْآن بِحرف وَصَوت قَالُوا قَالَ الله كَذَا وَقَالَ رَسُوله كَذَا وسرد الشَّيْخ الْآيَات وَالْأَخْبَار وَأَنْتُم إِذا قيل لكم مَا الدَّلِيل على أَن الْقُرْآن معنى فِي النَّفس قُلْتُمْ قَالَ الأخطل إِن الْكَلَام لفي الْفُؤَاد إيش هَذَا الأخطل نَصْرَانِيّ خَبِيث بنيتم مذهبكم على بَيت شعر من قَوْله وتركتم الْكتاب وَالسّنة.

التاسع، قال عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي في الاقتصاد في الاعتقاد: ونعتقد أن الحروف المكتوبة والأصوات المسموعة عين كلام الله عز وجل، لا حكاية ولا عبارة. وقال: فمن لم يقل إن هذه الأحرف عين كلام الله عز وجل فقد مرق من الدين، وخرج عن جملة المسلمين، ومن أنكر أن يكون حروفاً فقد كابر العيان وأتى بالبهتان. وقال: وقول القائل: بأن الحرف والصوت لا يكون إلا من مخارج باطل ومحال. قال الله عز وجل: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ}. وكذلك قال [عز وجل] إخباراً عن السماء والأرض أنهما {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}. فحصل القول من غير مخارج ولا أدوات. 

العاشر، قال ابن قدامة في لمعة الاعتقاد: كلام الله بحرف وصوت مسموع.

الحادى عشر، قال ابن رجب الحنبلي في ذيل طبقات الحنابلة: وَأَمَّا إنكار إثبات الصوت عَنِ الإِمام الَّذِي ينتمي إِلَيْهِ الحافظ، فمن أعجب العجب، وكلامه فِي إثبات الصوت كثير جدا.

وكفى بنا هذه المنقولات التي تثبت لنا فهما ينبغي لنا أن نسلك وننهج.

من الممكن أن توجد المكابرة في إثبات الحرف والصوت لله. وقولهم إنه يقتضى حدوث كلام الله لا قديمه لأنه يستلزم بدءا وأخرا لتكليمه. فأقول ذلك علم عند الله وهو وحده أعلم بكيف يسمع موسى عليه السلام كلامه الذي له حروف وصوت قديم لا بدء له.


الكتابة الخامسة عشرة : من أمثلة أهمية تعبير مناسبة المراد بين القرآن والحديث وأثرها في الحكم

لا يتعارض الأصلان في الإسلام القرآن والحديث في مراد المعنى. ولكن قد يكون معنى القرآن مطلقا حتى يدل الحديث على تقييده. وكذلك قد يكون معنى الحديث مجملا حتى يدل القرآن على تبيينه. وقد يكون فهم معنى القرآن في لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك قد يكون معنى الحديث فيما أحكمت آية الحكم تعالى. كان كثير من الأسباب وقوع مثل ذلك وهنا ليس بموضع للبحث فيه. وعلى كل حال، كفى بنا أن نعلم وجوب المسلم في تعبير مناسبة المعنى بين القرآن والحديث لأنه قد يؤثّر قيمة المعنى على الأقل والأحكام الفقهية والشرعية على الأثقل. ههنا أعرض بعض الأمثلة التي يطيب لنا نظرها. نفعنا الله من هذا البيان.

المثال الأول قول الله تبارك وتعالى في سورة المؤمنون الآية 5-7: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ﴿٥﴾ إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ﴿٦﴾ فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴿٧

وقوله في سورة النور الآية 30-31: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴿٣٠﴾ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ

فمن هاتين الآيتان، فمما ينبغي لكل مسلم أن يحفظ؟ 

هل هو حفظ من الحرام محضا كما قال البغوي في تفسيره في تفسير سورة المؤمنون الآية 5: "وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونز الْفَرْجُ اسْمٌ يَجْمَعُ سَوْأَةَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَحِفْظُ الْفَرْجِ التَّعَفُّفُ عَنِ الْحَرَامِ " وكما قال في نفس المرجع في تفسير سورة النور الآية 30: "وَإِنَّمَا أُمِرُوا بِأَنْ يَغُضُّوا عَمَّا لَا يَحِلُّ النَّظَرَ إِلَيْهِ، وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ، عَمَّا لَا يَحِلُّ"؟

أم هو أعم من ذلك وهو حفظ عن كل أشياء وجميع الأحوال من قضاء الشهوة أو غيره كما قال البيضاوي في تفسيره في تفسير سورة المؤمنون الآية 5: "إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ زوجاتهم أو سرياتهم، وعَلى صلة لحافِظُونَ من قولك احفظ على عنان فرسي أو حال، أي حافظوها في كافة الأحوال إلا في حال التزوج أو التسري أو بفعل دل عليه غير ملومين" أو كما قال في نفس المرجع في تفسير سورة النور الآية 30: "قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ أي ما يكون نحو محرم. وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ إِلاَّ على أزواجهم أَوْ ما ملكت أيمانهم"، أي التفسير في سورة المؤمنون آنفا كتفسير سورة النور هذه؟

أيما أصح التفسير؟ فلذلك يجب علينا أن نرجع حديثا يبين مراده. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ. وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ.، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ". [صحيح مسلم].

الآن ماذا أراد النبي صلى الله عليه وسلم بأحصن للفرج؟ أم هو حصن عن كل الأشياء أم الحرام؟ فالأوضح هو حصن عن الحرام، لا كل الأشياء. فإنه فائدة المعنى لهذا الحديث. فلا يمكن أن هذا الأحصن هو حصن عن جميع الأحوال التي يشتمل قضاء الشهوة ودون ذلك. هذا غير منسابة. وقوله "فإنه له وجاء" أراد بالوجاء الذي يصون الشباب من المحرمات، لا وراءها. فلما فهمنا مراد هذا الحديث فنقيس ذلك بالآيتين. فهاتان تريدان أن حفظ المؤمنين حفظ عن الحرام، لا جميع الأحوال.

التنبيه: الحرام لا يثبت إلا بإقامة الدليل على تحريمه لأن الأصل في الأشياء المباحة فيمنع سائر المسلمين أن يثبتوا أنه حرام دون سلطان مبين. فباعتبار هذا البيان اتضح لنا أن الاستدلال بتينك الآيتين لا يصح لأن وجهه أنهما تدلان على الحفظ عن جميع الأحوال فيظن أنهما تحرمان الاستمناء هو مردود لمخالفة مناسبة معناه عند اعتبار المعنى للحديث وهو يحصر الحصن عن الحرام وحدة، لا أعم من ذلك. فبهذا لا يؤخذ بوجه هذا الاستدلال بهما.

المثال الثاني قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: قَالَ : الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَلَا يَرْفُثْ، وَلَا يَجْهَلْ. وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ. وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا". [صحيح البخاري].

فما معنى الشهوة من هذا؟ قال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري: "وَالْمُرَادُ بِالشَّهْوَةِ فِي الْحَدِيثِ شَهْوَةُ الْجِمَاعِ".

فمن أين نستطيع أن نعلم أنها شهوة الجماع؟ هو مناسبة من قول الله عز وجل في سورة البقرة الآية 187 : أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ۗ عَلِمَ اللَّـهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ ۖ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّـهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ.

ألم تر مناسبة المعنى بين الحديث والقرآن؟ عندما ترى أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في ترك الطعام والشراب والشهوة يناسب قول الله جل وعز في حل الأكل والشراب ومباشرة المرأة في ليلة الصيام، فاتضح لك قد صح ما قاله ابن حجر العسقلاني.

فلهذا قد غلط من يقول ببطلان صوم الصائم بالاستمناء في النهار بالاستدلال بذلك الحديث للظن أن مراد الشهوة هو عمومها الذي يشتمل الجماع أو غير ذلك. فلا وجه لهذا بأنه قد خالف مناسبة المعنى مخالفة واضحة كالشمس المضيئة بين القرآن والحديث.


الكتابة السادسة عشرة : لماذا ينبغي لمن يريد أن يفهم المناضلة عن منهج المتقدمين في هذا العصر أن يقرأ كتاب تأثير العلة في تصحيح الحديث بين المتقدمين والمتأخرين لأبي عبد الرحمن عماد بن حسن المصري الظاهري؟

ومن لم يعترف بأن هناك واقعة فرق التطبيق العملي بين منهج المتقدمين والمتأخرين فيما نوقش هذا العصر فأوصيه بأن يقرأ هذا الكتاب وهو تأثير العلة في تصحيح الحديث بين المتقدمين والمتأخرين لأبي عبد الرحمن بن حسن المصري الظاهري.

في هذا عرض المؤلف لنا حقيقة ما خفي في عيني سالك منهج المتأخرين الذي يظن أنه سلك طريقة ما جرى مجرى المتقدمين وهو بعيد عن ذلك في العمل، بل بالخلاف الصريح عما تقرر على طول المتقدمين من التعليل وحكم المرسل على رواية راو عن شيخ له بخاصة وغيرهما. وأورد المؤلف أربع سبعين حديثا وناقش ما نوزع بين ممن يذهب إلى منهج المتقدمين وممن إلى منهج المتأخرين ووضح أخطاء خفية ومطعنات فاحشة في تطبيق منهج المتأخرين وطريقته في حكم الحديث.

وأوصي طالب الحديث أو باحثه بأن يحدّق به كي ينكشف عليك حقيقة عادة عمل النقاد المحدثين في دراسة الحديث وتعرف الفروق في أعمال الباحثين التي تتفاوت لكل واحد منهم وبخاصة المتأخرون فتعادَ إلى الأصول في عمل النقاد الأنقياء.

ومما أتأسف من يقول أن من يعرّف هذين المنهجين مبتدع وهناك يوجد فرق العمل من طوائف متعاصرة بلا ريب في عيون الباحثين ولم يعلم الأساس العظيم فيما ناضل عنه من قدّمهما! مع أني لا أوافق هذا التعريف وأرجو أن يكون له اصطلاح مناسب غيره، أعترف بواقعة هذا الفرق وأعرف أساسه العظيم الذي يكون منشأ يجتهد اجتهادا كبيرا من يأيّدهما! لو علم ذلك الأساس لعلم كيف عظامة مكانته في علم الحديث وسكت عن التكلم بالخبيث ولو كان له مخالفا.

فاعلم أن هذا أساس عظيم لما يتأسس جهود مؤيد منهج المتقدمين: قال ابن حجر العسقلاني في النكت على ابن الصلاح، 2/711 : فمتى وجدنا حديثا قد حكم إمام من الأئمة المرجوع إليهم بتعليله فالأولى إتباعه في ذلك كما نتبعه في تصحيح الحديث إذا صححه. وهذا الشافعي مع إمامته يحيل القول على أئمة الحديث في كتبه فيقول: "وفيه حديث لا يثبته أهل العلم بالحديث". وهذا حيث لا يوجد مخالف منهم لذلك المعلل، وحيث يصرِّح بإثبات العلة فأما إن وجد غيره صححه فينبغي حينئذ توجه النظر إلى الترجيح بين كلاميهما. وكذلك إذا أشار المعلل إلى العلة إشارة ولم يتبين منه ترجيح لإحدى الروايتين، فإن ذلك يحتاج إلى الترجيح. والله أعلم.

فطالع هذا الكتاب وقارن بين ما أقره ابن حجر العسقلاني وبين ما جرى في عمل المتأخرين. فسوف تراه. إن شاء الله.


الكتابة السابعة عشرة : الدليل على نفي الجسم عن الله وبيان حقيقة التشبيه عليه

قد سئلت: "إن لله وصف نفسه بالسمع وأن للخلق سمعا. فما فرق بينهما؟". أقول الفرق بينهما في الماهية أو الحقيقة فيهما لا إطلاق اللفظ أو تماثل اللوازم. أُورِدُ مثلا أن السمع والبصر يتشابها من جهة تعلق الإنكشاف. فهل يدل هذا على التماثل بينهما؟ لا، لأن لهما ماهية أو حقيقة تتخالفان بينهما. التماثل في اللازم، أي تعلق الانكشاف لا يلزم منهما تماثلا مطلقا. فهكذا في صفة السمع لله وللخلق. قد كان لهما الاشتراك في اللوازم، لكن لا في الماهية. وإن لم نعرف فرق ماهيتيهما لا ينفى عن فرقهما لأنه ليس كمثله شيء.

ثم، قد أعجبني قول ابن تيمية التالي في درء تعارض النقل والعقل في نفي مثل الخلق عن الله : ليس فيه أن اللغة التي نزل بها القرآن تطلق لفظ المثل علي كل جسم، ولا أن اللغة التي نزل بها القرآن تقول: إن السماء مثل الأرض، والشمس والقمر والكواكب مثل الجبال، والجبال مثل البحار، والبحار مثل التراب، والتراب مثل الهواء، والهواء مثل الماء، والماء مثل النار، والنار مثل الشمس، والشمس مثل الإنسان، والإنسان مثل الفرس والحمار، والفرس والحمار مثل السفرجل والرمان، والرمان مثل الذهب والفضة، والذهب والفضة مثل الخبز واللحم، ولا في اللغة التي نزل بها القرآن أن كل شيئين اشتركا في المقدارية بحيث يكون كل منهما له قدر من الأقدار كالطول والعرض والعمق أنه مثل الآخر، ولا أنه إذا كان كل منهما بحيث يشار إليه الإشارة الحسية يكون مثل الآخر، بل ولا فيها أن كل شيئين كانا مركبين من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة كان أحدهما مثل الآخر. بل اللغة التي نزل بها القرآن تبين أن الإنسانين مع اشتراكهما في أن كلا منهما جسم حساس نام متحرك بالإرادة ناطق ضحاك، بادي البشرة ـ قد لا يكون أحدهما مثل الآخر، كما قال تعالي {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} [محمد: 38] ، فقد بين أنه يستبدل قوماً لا يكونون أمثال المخاطبين، فقد نفي عنهم المماثلة مع اشتراكهم فيما ذكرناه. فكيف يكون في لغتهم أن كل إنسان فإنه مماثل للإنسان، بل مماثل لكل حيوان، بل مماثل لكل جسم نام حساس، بل مماثل لكل جسم مولد عنصري، بل مماثل لكل جسم فلكي وغير فلكي؟

نفيه ذلك عنده إنما في اختلاف الشكل والصورة والمقدار والصفات. والحق نفي المثل عن الله ليس بهكذا. وحقيقة الفرق بين الباري والبرية في الماهية، لا الأعراض والصفات التي تقوم في شيء. قال الله عز وجل في سورة الشورى الآية 11 : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.

الشي هو جميع ما في هذه الأفلاك من أصغر الأمور إلى أكبرها. إذا شرّحنا ماهية التي يتشارك بها جميع الموجودات في هذا العالم، فنجدها جسما. فهذا الجسم كائن في حوالينا في الشاهد كالشمس والقمر والحجر والشجر وغيرهن أو في الغائب وهو في نوع الجسم اللطيف كالملائكة والجنة والروح وغيرهم. هذه ماهية يتشارك بها كل ما يتحز في هذا العالم. والذي يفرق بينهم هو الأعراض والصفات التي تقوم في الأجسام إما بالتمام وإما بجزء من الأجزاء وإما باللوازم. فالحاصل أن ذات الله خلاف جميع الذي كونه بهذه الماهية واللوازم منها. فبهذا إثبات اليدين والوجه وغيرهن له لا يعني إثبات الأجسام واللوازم منها.

ففي أمر التشبيه للخلق عليه، الفخر الرازي قد بين هذه الحقيقة في تفسيره: الْمِثْلَانِ هُمَا اللَّذَانِ يَقُومُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَاهِيَّتِهِ. وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِيهِ مَسْبُوقٌ بِمُقَدِّمَةٍ أُخْرَى فَنَقُولُ: الْمُعْتَبَرُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِمَّا تَمَامُ مَاهِيَّتِهِ وَإِمَّا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ مَاهِيَّتِهِ وَإِمَّا أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ مَاهِيَّتِهِ وَلَكِنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ وَإِمَّا أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ مَاهِيَّتِهِ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ وَهَذَا التَّقْسِيمُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ ذَاتِ الشَّيْءِ وَبَيْنَ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِهِ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالْبَدِيهَةِ. فَإِنَّا نَرَى الْحَبَّةَ مِنَ الْحُصْرُمِ كَانَتْ فِي غَايَةِ الْخُضْرَةِ وَالْحُمُوضَةِ ثُمَّ صَارَتْ فِي غَايَةِ السَّوَادِ وَالْحَلَاوَةِ. فَالذَّاتُ بَاقِيَةٌ وَالصِّفَاتُ مُخْتَلِفَةٌ وَالذَّاتُ الْبَاقِيَةُ مُغَايِرَةٌ لِلصِّفَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ. وَأَيْضًا نَرَى الشَّعْرَ قَدْ كَانَ فِي غَايَةِ السَّوَادِ ثُمَّ صَارَ فِي غَايَةِ الْبَيَاضِ، فَالذَّاتُ بَاقِيَةٌ وَالصِّفَاتُ مُتَبَدِّلَةٌ وَالْبَاقِي غَيْرُ الْمُتَبَدِّلِ، فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الذَّوَاتَ مُغَايِرَةٌ لِلصِّفَاتِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: اخْتِلَافُ الصِّفَاتِ لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الذَّوَاتِ الْبَتَّةَ، لِأَنَّا نَرَى الْجِسْمَ الْوَاحِدَ كَانَ سَاكِنًا ثُمَّ يَصِيرُ مُتَحَرِّكًا ثُمَّ يَسْكُنُ بَعْدَ ذَلِكَ. فَالذَّوَاتُ بَاقِيَةٌ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا عَلَى نَهْجٍ وَاحِدٍ وَنَسَقٍ وَاحِدٍ وَالصِّفَاتُ مُتَعَاقِبَةٌ مُتَزَايِلَةٌ. فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ اخْتِلَافَ الصِّفَاتِ وَالْأَعْرَاضِ لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الذَّوَاتِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْأَجْسَامُ مِنْهَا تَأَلَّفَ وَجْهُ الْكَلْبِ وَالْقِرْدِ مُسَاوِيَةٌ لِلْأَجْسَامِ الَّتِي تَأَلَّفَ مِنْهَا وَجْهُ الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ وَإِنَّمَا حَصَلَ الِاخْتِلَافُ بِسَبَبِ الْأَعْرَاضِ الْقَائِمَةِ وَهِيَ الْأَلْوَانُ وَالْأَشْكَالُ وَالْخُشُونَةُ وَالْمَلَاسَةُ وَحُصُولُ الشُّعُورِ فِيهِ وَعَدَمُ حُصُولِهَا. فَالِاخْتِلَافُ إِنَّمَا وَقَعَ بِسَبَبِ الِاخْتِلَافِ فِي الصِّفَاتِ وَالْأَعْرَاضِ. فَأَمَّا ذَوَاتُ الْأَجْسَامِ فَهِيَ مُتَمَاثِلَةٌ إِلَّا أَنَّ الْعَوَامَّ لَا يَعْرِفُونَ الْفَرْقَ بَيْنَ الذَّوَاتِ وَبَيْنَ الصِّفَاتِ. فَلَا جَرَمَ يَقُولُونَ إِنَّ وَجْهَ الْإِنْسَانِ مُخَالِفٌ لِوَجْهِ الْحِمَارِ. وَلَقَدْ صَدَقُوا فَإِنَّهُ حَصَلَتْ تِلْكَ بِسَبَبِ الشَّكْلِ وَاللَّوْنِ وَسَائِرِ الصِّفَاتِ. فَأَمَّا الْأَجْسَامُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا أَجْسَامٌ فَهِيَ مُتَمَاثِلَةٌ مُتَسَاوِيَةٌ فَثَبَتَ أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي أَوْرَدَهُ إِنَّمَا ذَكَرَهُ لِأَجْلِ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْعَوَامِّ وَمَا كَانَ يَعْرِفُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي التَّمَاثُلِ وَالِاخْتِلَافِ حَقَائِقُ الْأَشْيَاءِ وَمَاهِيَّاتُهَا لَا الْأَعْرَاضُ والصفات القائمة بها.

بقي هاهنا أَنْ يُقَالَ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْأَجْسَامَ كلها متماثلة؟ فنقول لنا ها هنا مَقَامَانِ: الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: أَنْ نَقُولَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُسَلَّمَةً أَوْ لَا تَكُونُ مُسَلَّمَةً، فَإِنْ كَانَتْ مُسَلَّمَةً فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ كَانَتْ مَمْنُوعَةً، فَنَقُولُ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِلَهُ الْعَالَمِ هُوَ الشَّمْسُ أَوِ الْقَمَرُ أَوِ الْفَلَكُ أَوِ الْعَرْشُ أَوِ الْكُرْسِيُّ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الْجِسْمُ مُخَالِفًا لِمَاهِيَّةِ سَائِرِ الْأَجْسَامِ فَكَانَ هُوَ قَدِيمًا أَزَلِيًّا وَاجِبَ الْوُجُودِ وَسَائِرُ الْأَجْسَامِ مُحْدَثَةٌ مَخْلُوقَةٌ وَلَوْ أَنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يُسْقِطُوا هَذَا الْإِلْزَامَ عَنِ الْمُجَسِّمَةِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ؟ فَإِنْ قَالُوا هَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْأَفْلَاكَ كُلَّهَا مُحْدَثَةٌ مَخْلُوقَةٌ، فَيُقَالُ هَذَا مِنْ بَابِ الْحَمَاقَةِ الْمُفْرِطَةِ لِأَنَّ صِحَّةَ الْقُرْآنِ وَصِحَّةَ نُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ مُفَرَّعَةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ الْإِلَهِ، فَإِثْبَاتُ مَعْرِفَةِ الْإِلَهِ بِالْقُرْآنِ وَقَوْلِ النَّبِيِّ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ يَفْهَمُ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ. وَالْمَقَامُ الثَّانِي: أَنَّ عُلَمَاءَ الْأُصُولِ أَقَامُوا الْبُرْهَانَ الْقَاطِعَ عَلَى تَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ فِي الذَّوَاتِ وَالْحَقِيقَةِ، وَإِذَا ثبت هذا ظَهَرَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ إِلَهُ الْعَالَمِ جِسْمًا لَكَانَتْ ذَاتُهُ مُسَاوِيَةً لِذَوَاتِ الْأَجْسَامِ إِلَّا أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ بِالْعَقْلِ وَالنَّقْلِ. أَمَّا الْعَقْلُ فَلِأَنَّ ذَاتَهُ إِذَا كَانَتْ مُسَاوِيَةً لِذَوَاتِ سَائِرِ الْأَجْسَامِ وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ عَلَيْهِ مَا يَصِحُّ عَلَى سَائِرِ الْأَجْسَامِ، فَيَلْزَمُ كَوْنُهُ مُحْدَثًا مَخْلُوقًا قَابِلًا لِلْعَدَمِ وَالْفَنَاءِ قَابِلًا لِلتَّفَرُّقِ وَالتَّمَزُّقِ. وَأَمَّا النَّقْلُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الدَّلِيلِ وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّا لَا نَقُولُ بِأَنَّهُ مَتَى حَصَلَ الِاسْتِوَاءُ فِي الصِّفَةِ لَزِمَ حُصُولُ الِاسْتِوَاءِ فِي تَمَامِ الْحَقِيقَةِ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ، فَلَوْ كانت ذاته جسما لكان ذَلِكَ الْجِسْمُ مُسَاوِيًا لِسَائِرِ الْأَجْسَامِ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ. وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ جِسْمٍ مِثْلًا لَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي حُصُولِ الْمُمَاثَلَةِ اعْتِبَارُ الْحَقَائِقِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، لَا اعْتِبَارُ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِهَا. فَظَهَرَ بِالتَّقْرِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّ حُجَّةَ أَهْلِ التَّوْحِيدِ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ. انتهى قوله.

فبهذا، وضح لنا أنه إذا قيل خالف الله الأشياء كلها في الآية، فإنه يخالف ماهية يتشارك بها جميع خلقه الذي يمكث في هذا العالم واللوازم منها. فلا يُثْبِتَنّ له هذا المعنى الذي يتضمن في العالم. ثم، تماثل اللوازم بين صفاته وصفات الخلق لا يلزم منهما التشبيه لأن لهما فرق في ماهية وحقيقته.


الكتابة الثامنة عشرة : الفرق العقدي بين أبي عثمان الدارمي وابن تيمية

ظن كثير من الناس أن عقيدة أبي عثمان الدارمي وابن تيمية بينهم متساوية كأن الدارمي يؤثر فهم اعتقاد ابن تيمية. وقد يشنع بعض الناس ابن تيمية ناترا الدارمي معا في التشنيع كأنهما في رأس واحد. والواقعة يتخالفان واضحا في عقيدتهما الخطيرة وإن أخذ ابن تيمية وراجع أقوال الدارمي كثيرا في الدفاع عن رأيه. بل إني إذا دافعت عن الدارمي، لا أدافع عن ابن تيمية، فبالمزيد أن أتخذه القبلة في فهم منهج السلف.

فهاهنا أُورِد الأمران اللذين يفرقان بينهما في قضية العقيدة الخطيرة. فالأول إثبات الجسم لله. والدامي لا يثبته له، بل يعترف أن الجسم صفة قائمة في الخلق. قال في النقض على المريسي : وَإِنَّهُ لَا يُقَاسُ رُوحُ اللَّهِ، وَبَيْتُ اللَّهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ الْمُجَسَّمَاتُ الْمَخْلُوقَاتُ الْقَائِمَاتُ الْمُسْتَقِلَّاتُ بِأَنْفُسِهِنَّ اللَّاتِي كُنَّ بِكَلَامِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ لَمْ يَخْرُجْ شَيْءٌ مِنْهَا مِنَ اللَّهِ. كَكَلَامِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَخْلُوقَ قَائِمٌ بِنَفسِهِ وعينه، وحليته وجسمه. لايشك أَحَدٌ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّهُ غير الله. وَأَنه لَيْسَ مِنْهُ لِلَّهِ صِفَةً. انتهى.

ففي هذا وضح لنا أنه يحيل إلى أن الجسم مخلوق لا يقوم في الله ولا يكون الأشياء المذكورة في صفاته. وكذلك، يؤكد أنه لا يصفه بالجسم. قال في نفس المرجع : وَنَحْنُ وَإِنْ لَمْ نَصِفِ اللهَ بِجِسْمٍ كَأَجْسَامِ المَخْلُوقِينَ، وَلَا بِعُضْوٍ وَلَا بِجَارِحَةٍ؛ لَكِنَّا نَصِفُهُ بِمَا يَغِيظُكَ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي أَنْتَ ودُعَاتُك لَهَا مُنْكِرُونَ، فَنَقُولُ: إِنَّهُ الوَاحِدُ الأَحَدُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، ذُو الوَجْه الكَرِيم، والسَّمْعِ السَّمِيع، والبَصَرِ البَصِير، نُورُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ.

لكن ابن تيمية قد بان أنه يدافع عن التجسيم لله. اقرأ كتاب بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية ودرء تعارض النقل والعقل، ثم انظر إلى بيانه في معنى الأحد والواحد. ففي هذا ضياء منير في فهمه. والجسم الذي يثبته لله هو ما يرفضه الأشعرية والحنبلية، بل الجهمية والمعتزلية.

ومن العجب أنه قال في بيان تلبيس الجهمية أن السلف لا يذمون المجسمة ولا يثبتون الجسم ولا ينفونه لله. وهو أيضا قال هذا ما نفاه عنه الكلابية وأئمة الأشعرية وطوائف من فقهاء المذاهب الأربعة والصوفية وأهل الحديث وأصحاب أحمد مثل القاضي أبي يعلى وابن الزاغوني وابن عقيل وغيرهم. ولكنه في نفس الوقت يدافع بالغا جهده عن التجسيم لله. أهذا طريقة لمن يدافع عن منهج السلف ويناضل عن إرجاع سنة السلف في العقيدة؟

وقد قال ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية : ولا ريب أن الرازي ونحوه ممن يحتج بمثل هذه الحجة لا يفسرون الانقسام هنا بهذا الذي قررناه من فصل بعضه عن بعض بحيث يكون كل بعض في حيزين منفصلين أو إمكان ذلك فيه فإن أحدًا لم يقل إن الله منقسم بهذا الاعتبار ولا يلزم من كونه جسمًا أو متحيزًا أو فوق العالم أو غير ذلك أن يكون منقسمًا بهذا الاعتبار. انتهى كلامه. فقارن بين قوله: "ولا يلزم من كونه جسمًا" ونفيِ الجسمِ الدارميُّ عن الله قد ذكرته آنفا وانظر إلى واصخ الفرق بينهما.

والثاني في الحوادث لا أول لها التي تقوم في ذات الله. قال ابن تيمية: وقد ظن من ذكر من هؤلاء كأبي علي وأبي الحسن بن الزغواني، أن الأمة قاطبة اتفقت على أنه لا تقوم به الحوادث، وجعلوا ذلك الأصل الذي اعتمدوه، وهذا مبلغهم من العلم، وهذا الإجماع نظير غيره من الإجماعات الباطلة المدعاة في الكلام وغيره وما أكثرها فمن تدبر وجد عامة المقالات الفاسدة يبنونها على مقدمات لا تثبت إلّا بإجماع مدعى أو قياس، وكلاهما عند التحقيق يكون باطلًا. ثم إن من العجب أن بعض متكلمة أهل الحديث، من أصحاب أحمد وغيرهم، يدعون مثل هذا الإجماع، مع النصوص الكثيرة عن أصحابهم بنقيض ذلك، بل عن إمامهم وغيره من الأئمة، حتى في لفظ الحركة والانتقال بينهم في ذلك نزاع مشهور، وقد أثبت ذلك طوائف مثل ابن حامد وغيره، وقد ذكر إجماع أهل السنة على ذلك حرب الكرماني، وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهما من علماء السنة المشهورين. فليتدبر العاقل ما وقع في هذه الأصول من الاضطراب، وليحمد الله على الهداية. انتهى.

وحقيقة قيام الحوادث في ذات الله لا يقوله الدارمي وحرب بن إسماعيل الكرماني. هذا نظري أقامه ابن تيمية عند اعتبار كلامهما في الحركة لله. والحق أن الدارمي إنما يثبته بالصفة القديمة دون تفصيل الكلام. قال في النقض على المريسي : لَا نسلم مُطلق المفعولات مخلوقة. وَقد أجمعنا على أَن الْحَرَكَة وَالنُّزُول وَالْمَشْي والهرولة والاستواء على الْعَرْش، وَإِلَى السَّمَاء قديم، والرضى، والفرح وَالْغَضَب وَالْحب، والمقت كلهَا أَفعَال فِي الذَّات للذات، وَهِي قديمَة، فَكل مَا خرج من قَول: "كن" فَهُوَ حَادث. وكل مَا كَانَ من فعل الذَّات فَهُوَ قديم وَالله أعلم. انتهى.

اسأل أنفسنا. كيف كلام الدارمي المجيز هذا يحيل إلى فهم الحوادث لا أول لها التي تقوم في ذات الله؟ إن أراد أن أعبر قبيح كلام عليه، أقُلْ أن ما فعله ابن تيمية في هذا الباب هو من الافتراء على السلف الذين لا يقولون ما يقول ابن تيمية واستغلاله لتجويز مبالغته في الدفاع عن رأية في تلك المسألة وإغواء الناس في المواضع الكثيرة أن رأيه متابع للسلف.

والسلف بريء من هذا. والشاهد أن ابن تيمية رد على إجماع الأمة التي قد ذكره ابن حزم في أن ليس مع الله عز وجل شيء. قال ابن حزم في مراتب الإجماع : اتَّفقُوا ان الله عز وَجل وَحده لَا شريك لَهُ خَالق كل شَيْء غَيره وَأَنه تَعَالَى لم يزل وَحده وَلَا شَيْء غَيره مَعَه ثمَّ خلق الاشياء كلهَا كَمَا شَاءَ وَأَن النَّفس مخلوقة وَالْعرش مَخْلُوق والعالم كُله مَخْلُوق. انتهى قوله. مع أن ابن تيمية وافق أن الله وحده خالق كل شيء وعنده هذا حق، صرح بأن أعجب من ذلك حكايته الإجماع على كفر من نازع أنه سبحانه لم يزل وحده ولا شيء غيره معه ثم خلق الأشياء كما شاء. وقال أيضا ومعلوم أن هذه العبارة ليست في كتاب الله ولا تنسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم!

والنقد الطويل في نقد مراتب الإجماع له وذكر أمورا في الحوادث القائمة في ذات الله. فأبعدنا الله من هذا الانحراف. فإن السلف لم يأكل القول الخبيث.

وأحب أن أذكر أنا لا نحتاج إلى مؤلفات ابن تيمية في فهم السلف ولا نعتمد إليها في نهج طريقة السلف. ونكفي بمطالعة كتب السلف ونستمسك بها مثل الرد على الجهمية والزنادقة لأحمد بن حنبل والسنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل والسنة لأبي بكر الخلال وخلق أفعال العباد للبخاري والاختلاف في اللفظ لابن قتيبة والرد على الجهمية والنقض على المريسي لأبي سعيد الدارمي والتبصيف في معالم الدين لأبي جعفر الطبري والمؤلفات التي تجمع أقوال السلف وكلامهم مثل العلو للعلي الغفار للذهبي واجتماع الجيوش الإسلامية على حرب المعطلة والجهمية.

ومع ذلك أرى أن السلفية غالبا في هذا اليوم أخذوا مواقف الذهبي في التعامل مع مسائل صفات الخبرية مثل أن لا يثبت ولا ينفى عنه ويسكت وينفر من بحث المعاني التي لم ترد في القرآن والحديث ولا بانت فيهما وإن كانوا أخذوا وراجعوا أقوال ابن تيمية. وأنهم مثل راكبين على سفينة الذهبي يتخذون ابن التيمية قائدهم.


الكتابة التاسعة عشرة : ذم شديد التعصب وغلو التقليد

قد غفل أناس عن هورة غلو التقليد وفساد شديد التعصب حتى يروا أن الجهود في نقضهما في ثقافتنا العلمية كأنه مقاومة على شيء يسير وجوده أو ليس عندهم جدي إلى تركيزه. وهم لا يتنهون لهذا الإثم العظيم الذي قد جرى في حضارتنا الإسلامية وقد كُتِب في التواريخ .

فأول وهلة، عرفنا ما حدث في المذاهب الفقهية والفرق العقدية من أهل السنة. لقد شهدت الأمة على تخاصمات ومساجلات بين الفقهاء والعلماء في تمكين سطواتهم في بلادهم وأهلها، لا سيما إن كانوا عندهم إعانة من السلاطين والملوك. والتعصب المذهبي أمر لن ينافيه أحد وخاصة من يطلع على تاريخه. انظر إلى التعصب المذهبي في التاريخ الإسلامي لخالد كبير علال لابتداء القراءة.

وقد حدث هذا التعصب في زمان الإمام محمد بن إدريس الشافعي. قال الربيع بن سلميان برواية البيهقي في مناقب الشافعي : رأيت أشهب بن عبد العزيز ساجداً وهو يقول في سجوده: للهم أمت الشافعي وإلا ذهب علم مالك بن أنس فبلغ الشافعي ذلك فتبسم وأنشأ يقول. فذكر البيتين وزاد بيتا ثالثاً:

وقد علموا لو ينفع العلمُ عندهم # لئن مِتُّ ما الداعي عليَّ بمُخْلَد

ثم، نظرنا إلى ما شهد علمائنا غير السلفية على خباثة المتعصب وغلاة التقليد. وأنقل كلامهم لإعلام أخي القارئ أن ذمهما لا يحصر من السلفية ، بل من كل من سلك على المنهج الصفي واشتد في اتباع السنة ولازم البرهان القوي والحجة الغالبة والسلطان القاهر وجعل كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على رأسه وعينيه ونبذ التقليد وشنع التعصب.

قال أحمد بن محمد بن الصديق الغماري الحسني وهو أهل الحديث الصوفي من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدث بأبيه في التصور والتصديق بأخبار الشيخ سيدي محمد ابن الصديق : ووقعت له مناظرة بالمدينة المنورة مع حمدان الونيسي الجزائري في محفل عظيم من العلماء. فيهم شيخنا الإمام سيدي محمد ابن جعفر الكتاني والشيخ توفيق الأيوبي الشامي والشيخ أمين سويد الدمشقي أيضا والسيخ عمر حمدان المحرمي والسيد أبو القاسم الدباغ وما يقرب من عشرين عالما كانوا مجتمعين بضريح سيدنا حمزة رضي الله عنه. وبعضهم يسرد تفسير ابن عجيبة، فمرت مسألة البحر البحث فيها بينهم إلى مخالفة المذهب. فتكلم الونيسي بكلام أراد به التنكيت على سيدي أبي القاسم الدباغ لأنه كان من المعلنين بنبذ التقليد والعمل بالسنة وظن الونيسي أنه منفرد بذلك من بين الحاضرين. فانبرى له الشيخ رضي الله عنه وناظر مناظرة بهرت عقول الحاضرين ومكثوا يتحدثون بها طول عمرهم. كلما جرى ذكر الشيخ رضي الله عنه حتى ذكر كل من السيد أبي القاسم الدباغ والشيخ عمر حمدان على الانفراد في أوقات مختلفة قالوا: "ما كنا بمثل الونيسي أمام الشيح إلا كهر صغير بين يدي أسد عظيم". فلما ألزمه الحجة، ولم يجد من يد الشيخ مفرا قال في حمية وغضب للتقليد والشيطان: "ما قاله الله ورسوله أضعه تحت قدمي. وما قاله خليل أجعله فوق رأسي". فقال له الشيخ: "الآن سقط الكلام معك ولو أخبرتنا بهذا من أول وهلة، ما ناظرناك لأننا كنا نظن أنك تناظر عن جهل بالمسألة وخطأ في النظر والاعتقاد وحيث وصلت إلى حد الكفر والردة والعناد، فلا كلام لنا مع من هذا حاله".

وأورد أحد كبار تلاميذه، عبد الله بن عبد القادر التليدي قوله في در الغمام الرقيق برسائل الشيخ السيد أحمد ابن الصديق : وقد أفتينا مرة في مسألة واستدللنا لها بالحديث. فأخذ السائل تلك الفتوى إلى الفرطاخ، وكان من علماء تطوان. فلما قرأها غضب واحتد وقطعها. ثم رمى بها وقال للرجل: "إذا جئتني مرة أخرى بفتوى فيها حديث، بعثتك إلى السجن". وناظرت مرة رجلا من تطوان، فصار يصيح ويقول: "يا عباد الله! أيأمرنا هذا الرجل بالكفر؟ أيأمرنا أن نترك خليلا ونعمل بالحديث؟".

وأورد محمود سعيد ممدوح كلامه في مسامرة الصديق ببعض أحوال أحمد ابن الصديق : والقسم الثالث من المقلدة وهم ءفي نظر المرتجم لهء العلماء الجامدون على المذاهب تقليدا لا تنقيدا واتباعا ويزيدون على ذلك عداوتهم لمن يعلن طلب الدليل والبحث عنه والدعوة لاتباعه كما جاء عن يوسف النبهاني أنه يتقذر من رؤية الداعين إلى العمل بالدليل كما يقذر من رؤية النجاسة! وكما قال جعفر الكتاني في الرد على عبد الله السنوسي: "وبعد، فقد نبغت نابغة من المجوس رأسهم ابن حزم يقولون: "لا يجوز العمل إلا بكتاب الله وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم"! فسماهم مجوسا وجعل علة تمجسهم قولهم: "لا يجوز العمل إلا بكتاب الله والحديث"! ثم قال في آخر كتابه الخرافي: "الفصل العاشر في تحريم العمل بكتاب الله وحديث رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم... إلى آخر"! هكذا يصرح بتحريم بكل جرأة ووقاحة! وسمى الخضر الشنقيطي كتابه في نصرة التقليد: "قمع أهل الزيغ والإلحاد عن الطعن في أئمة الاجتهاد". فسماهم ملاحدة وجعل قولهم: "لا يجوز تقليد الأئمة" طعنا فيهم! وقال القادري في رسالته في العمل بالضعيف من أقوال المذهب: "فإن قلت هل يجوز العمل بالحديث؟ فالجواب: لا"!. ولو أملينا عليك ما سمعناه منهم ووقع لنا معهم، لسمعت العجب العجاب.

وأرد التليدي قوله في نفس الكتاب : وكتاب التونسي الذي تسأل عنه طبع منذ ثلاثين سنة تقريبا. ومؤلفه هو المجرم الأحمق عدو الله روسوله صلى الله عليه وسلم حقا؛ يوسف الكافي الذي يعتقد يقينا لا شك فيه عنده كفر من يعمل بالسنة واستحلال دمه وريرى وجوب عبادة مالك وعدم الخروج. فهو من المغاربة الحمقى الخبثاء جدا جدا جدا. 

وأورد أحد كبار تلاميذه، محمد بن الأمين بوخبرة قوله في رسائله معه التي جمعها أبو الفضل بدر العمراني :  محمد بن الأمين بوخبرة أما مسألة الباجي والريفي وأمرهما بقتل من خالف المذهب في الطلاق الثلاث، فلا غرابة في ذلك لمن عرف شر البدعة وتغلغلها في النفوس. فإن المبتدع يعتقد بدعته دينا وينافخ عنها منافخة المؤمن عن الحق وشر البدع وأخبثها بدعة التقليد. فإن كثيرا من البدع لا يبلغ درجة الشرك وعبادة المخلوق مع الله تعالى ولو وحدوه لكان في الأمر خفة. ولكنهم يرون أن كلام أربابهم ورأيهم مقدم على كلام الله ورسوله وأفضل منه وأولى الحق، بل أوجب بالقبول والامتثال. قبحهم الله. وقد سعى الباجي وأصحابه في قتل ابن حزم وهلاكه. ولما لم تصل يدهم إلى ذلك، حرقوا كتبه ونفوه وطردوه. وقد تحاربوا وتقاتلوا ومات منهم المائات أو العشرات في حرب أبي نصر ابن القشيري مع الحنابلة لأجل تقليد الأشعري. وفقهائكم أهل تطوان برئاسة الزواق أردوا الفتك بنا امتثالا لقول ابن عاصم أو غيره: "ومن جفا القاضي فالتأديب" حيث كتبنا لابن عبدون إلى الشاون وقلنا في حق العلمي: "إنه أجهل من حمار وأضل من بعير". ولولا أن الله دافع عنا وحمانا بالأعداء حيث حاز الحكم الجنرال وركاص وقال لهم: "اذهبوا فسأنظر"، لكان ما كان مما لست أذكره فظن شرا ولا تسأل عن الكدر. وكنت كتبت لهم على يد قاضي طنجة رسالة مطولة في تجهيلهم وتجهيل من قال: "ومن جفا القاضي فالتأديب". وذكرت لهم أنه وجد من جفا سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، ثم أبا بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي في خلافتهم، فا أدب واحد منهم الجافي.

وقال محمد الزمزمي بن محمد بن الصديق الحسني وهو صوفي من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخ ثالث لأحمد الغماري في الزاوية وما فيها من البدع والأعمال المنكرة : حكى بعض الإخوان أنه أنكر على أحد المتصوفة الجاهلين مخالفة السنة في عمل عمله. فقال له: "شيخي كان يعمل هذا العمل. ولو دخل شيخي النار لدخلتها معه!".

وقال ظافر جمال الدين القاسمي في جمال الدين القاسم وعصره يتحدث بأبيه حين جُرَّ إلى المحكمة لأنه عقد الجماعة التي تتباحث العلماء في العلوم فيها من دون تقيد مذهب من المذاهب : وأما المحاكمة الجديدة، فقد بدأت باستجواب القاسمي وسؤاله عن التهمة الموجهة إليه. وهي: "إنكم تجتمعون على تفسير القرآن الكريم والحديث برأيكم وتردون الأئمة المجتهدين؟ هل قلتم بطهارة الخمر؟ هل وضعت الحاشية على كتاب الشعراني كشف الغمة؟ هل قلت لرجل استفتاك: خذها على مذهبي، الجمالي؟". وبعد أن أجاب على النحو الذي ستراه فيما دونه القاسمي نفسه، قال له المفتي: "ما لكم ولقراءة الحديث؟ يلزم قراءة الكتب الفقهية والحجر على قراءة الكتب الحديثية والتفسيرية!".

إذا نظرنا إلى هذه الشهادة، كيف يكون شأن التعصب وغلو التقليد ضئيلا؟ ولا يظن ذلك إلا من في حقيقته يستقر فيه قليلا أو قريبا منه، فلذلك لا يهتم بهذا الإثم ولا يرغب في الجهود على نبذه ومجاهدته.

ألا يعلم كيف شره إذا رسخ في مجتمعنا توسعا في بلادنا؟ هل يعلم لماذا التقي السبكي وقف في الشافعي وهو قد أجمع الأئمة المعاصرة معه على أنه بلغ في رتبة المجتهد؟ قال أبو زرعة العراقي في الغيث الهامع شرح جمع الجوامع : وقُلْتُ مَرَّةً لِشَيْخِنَا الإِمَامُ البَلْقِينِيُّ رَحِمُهُ اللَّهُ تعَالَى: مَا يَقْصُرُ بِالشَّيْخِ تَقِيِّ الدّينِ السُّبْكِيِّ عَنِ الاجْتِهَاد وَقَدْ اسْتَكْمَلَ آلاَتِهِ؟ وكَيْفَ يُقَلِّدُ؟ ولَمْ أَذْكُرَهُ هو استحيَاءً مِنْهُ لِمَا أُرِيدُ أَنْ أُرَتِّبَ علَى ذَلِكَ، فَسَكَتَ عَنْهُ. فَقُلْتُ: مَا عندي أَنَّ الامتنَاعَ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ لِلوظَائفِ التي قَرَّرَتْ لِلفقهَاءِ علَى المَذَاهِبِ الأَربعةِ، وأَنَّ مَنْ خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ وَاجْتَهَدَ لَمْ يَنَلْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وحُرِمَ وِلاَيةُ القضَاءِ، وَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ استفتَائِه ونُسِبَ لِلبِدْعَةِ. فَتَبَسَّمَ ووَافَقَنِي علَى ذلكَ.

هذه جريمة عظيمة على المجتمع بأنهم يمنعون من استكمل آلات الاجتهاد وقدر عليه من تأدية حقه وإجراء ما منحه الله في ما يأمر ويستحبه الله. فهم مسؤولون إلى الله وخصوصا وظائف وأولياء الذين بأيديهم سلطان وهم يتولونه في هذه الجريمة على العلماء المسلمين!

ثم، انظرإلى ما أصابه السيوطي من هذه الجريمة. قال في تقرير الاستناد في تفسير الاجتهاد : شنع مشنع على دَعْوَى الِاجْتِهَاد بِأَنِّي أُرِيد أَن أعمل مذهبا خَامِسًا وَرُبمَا زادوا أَكثر من ذَلِك وَمثل هَذَا التشنيع إِنَّمَا يمشي على عقول الْعَوام وَمن جرى مجراهم. انتهى.

ومن السيوطي؟ قال في حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة : وقد كملت عندي الآن آلات الاجتهاد بحمد الله تعالى؛ أقول ذلك تحدثًا بنعمة الله تعالى لا فخرًا؛ وأي شيء في الدنيا حتى يطلب تحصيلها بالفخر، وقد أزف الرحيل، وبدا الشيب، وذهب أطيب العمر! ولو شئت أن أكتب في كل مسألة مصنفًا بأقوالها وأدلتها النقلية والقياسية، ومداركها ونقوضها وأجوبتها، والموازنة بين اختلاف المذاهب فيها لقدرت على ذلك من فضل الله، لا بحولي ولا بقوتي، فلا حول ولا قوة إلا بالله، ما شاء الله، لا قوة إلا بالله.

وقد حاز من أعلى الدرجات في رتبة العلماء ومؤلفاته التي وصلت إلينا بينة على علمه وإتقانه ورسوخه وعظمته. ولكن الناس من خلال حياته لم يلفت أنظارهم إلى مكانته الكريمة في العلم وأصروا على الخصومة عليه لأنه ادعى إلى الاجتهاد وحاسبوا أنه أراد إقامة المذهب الخامسة وهو يحرص على اتباع الدليل والتزام الحق من دون تقيد رأي من الآراء ومذهب من المذاهب. قال الحافظ أحمد الغماري كما أورد قوله عبد الله بن عبد القدير التليدي في در الغمام الرقيق : "وانظر الحافظ السيوطى لما ادعى الاجتهاد. كيف نبذه أهل عصره وحاربوه وبقي منعزلا في بيته. وهكذا شأن كل من ادعى الاجتهاد".

لو كان أولئك أحياء في هذا الزمان ليكونون خجلى من أن يعرفوا ما ترك الحافظ السيوطي تصانيفه التي صارت شهادة على منزلته العلمية بلا نزاع إلا من عمي بصره وغمر صدره في الحسد.

ويكفي بجميع هذا مؤثر تنبهنا إلى إثم التعصب وغلو التقليد في المسلمين والمهمة على نبذها والتنبيه للناس عامة. إن كان هذا لم يبعث رجلا على التنبه فلا أدري ما تقرر في صدره ويجب عليه أن يحاسب نفسه أين التزام بكتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباع الدليل الواضح والحجة المتينة في عينيه؟

وآخر الكلام، أنقل الكلام النفيس عن محمود سعيد ممدوح في بيان لماذا تكره المقلدةُ المجتهد لكي نَعِيَ جهة ذم المتعصب وغلو التقليد : هناك نوع فريد من العلماء لاينبغي أن تخلو الأمة من أمثاله. هم المجتهدون أو قل المتبعون الذين يدورون مع الدليل وهم من استكملوا الآلات المؤهلة للفهم الصحيح للنصوص ومشوا مع النص وداروا معه. هذا الصنف من العلماء حاله صعب جدا مع المقلد فإنه لا يثبت على حالة فمرة تراه موافقا لمذهب من مذاهب العترة وأخرى يوافق الشافعي ويخالف الجمهور ومرة يمشي مع المالكية والشافعية ومرة يخالف الأربعة ويرجح رأي ابن حزم ومرة يخالف الجمهور ويمشي مع العترة المطهرة. كل هذا بحسب نظره واجتهاده وقوة بحثه وهو مأجور أصاب أم أخطأ. وغالبا ما يتهمه المقلدة بالشذوذ الذين غايتهم قال فلان وقال فلان والمشهور كذا والمتن كذا فهذا ليس بعلم. وهذا الصنف من العلماء لا يحبه المقلدة ويشنعون عليه. لماذا؟ لأنه معهم مرة ورد عليهم مرات وترقى لمخالفة أصل من أصول مذهب معين كعمل أهل المدينة أو شنع على مذهب لأنهم لا يخصصون عام القرآن بالسنة الصحيحة أو كتب في معارضة من يقدمون القياس على السنة أو اختار حجية اجماع العترة أو رد حديث الناصبي وهكذا. فلما كان هذا العالم يكاد ألا يوافق أحدا وغالبا ترى المقلدة يعارضونه لأنه تناول مذهبهم أو إمامهم بالمخالفة وربما ناقشه وخالفه لأن المقلد غالبا ما يعتبر كلام إمامه كالحجة الشرعية. ولهذا كثر تشنيع العلماء المقلدة على ابن حزم وردوا عليه ولما تعرض الامام النووي لاختيارات فقهية له رجحها ونص عليها في المنهاج ، لم يعتبرها فقهاء الشافعية المتأخرين من المذهب. [ارجع إلى : https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=242554779492136&id=100012128473491].


الكتابة العشرون : الفوائد النفسية من أحمد بن الصديق الغماري في الاجتهاد والمجتهد

هاهنا ما أنقل بيان أحمد بن محمد بن الصديق الغماري رحمه الله تعالى الذي وجدته نفيسا في قضية الاجتهاد والمجتهد عما نقل عنه أحد كبار تلميذه، عبد الله بن عبد القادر التليدي في كتابه در الغمام الرقيد برسائل الشيخ السيد أحمد بن الصديق وعن غيره. ولي أسباب نقلي كلامه.

الأول، هو أهل الحديث الصوفي من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأهل البيت رحمهم الله عند الصوفية العامة لهم قيمة عظيمة في شأنهم الديني وآرائهم في المسائل يحوي تأثيرا لا يوجد فيه غيره أنفس منه. جاز أن تقول أني أورد كلامه وبيانه للصوفية خاصة لأن بيني وبينه تنازع يسير في هذا الباب. وأرجو كلامه شفاء الغليل في صدورهم وتأكيد موقفي في هذه المسألة.

الثاني، اشتهر في عصره حتى اليوم بالمجتهد وقد شهد من لازمه وجالسه وتتلمذ عليه وعرفه معرفة دقيقة على بحر علمه ووسع حفظه وشدة إتقانه ورسوخ تضلعه في العلوم وبخاصة علم الحديث والفقه حتي يليق به رتبة المجتهد بدون نزاع. وهو أيضا ممن اشتد في نبذ التقليد وتشنيع التعصب على رأي من الآراء ومذهب من المذاهب وبذل جهده في الدعوة إلى التمسك بكتاب الله وسنة جده سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والالتزام بالدليل ولم يخف من خالفه وعارضه. فلهذا أحب أن أذكر الرأي عن الاجتهاد والمجتهد من المجتهد نفسه لكي يتصخ لنا حقيقتهما وينقص التباسنا في هذه القضية.

الثالث، وعلى رغم أنه من من غلاظ الصوفية ففي أصل المنهج لا يختلف اختلافا كبيرا مع السلفية. بل، من نظر إلى موقفه في باب الأسماء والصفات والجهود في نبذ التقليد، وجد بينه وبينهم قربا تطمئن به قلوب السلفية. فلذلك، على كلامه في هذه المسألة موافقة السلفية إلا في التطبيق والاختيارات في المسائل في العلوم الإسلامية والمسلك الذي خطاه كل أناس من أهل السنة وكل فرقة من فرق ناجية وهو منسجم مع أخي القارئ من السلفية.

الرابع، رأيت أناسا من العوام والعلماء ودائما حتى اليوم أراه كان عندهم سوء تفاهم في هذه القضية يتصورون هم الاجتهاد والمجتهد بخلاف ما يكون فيهما واقع وحقيقة حتى يضل ضلالا بعيدا عما تقرر في أصول الفقه وما اشترطهما الأصوليون ويبالغ في وضع رتبتهما ووصفه ويأبي أن يقبل نظرة جديدة وتنقيح تصوره ويلج في التقاليد العتيقة وجمود الظاهرية فيما كتبت فيه التآليف التي يعتمده كأنه لا يكون في هذه القضية تجديد وتعقيب وتنقيح وانتقاء. وها هذا أحمد الغماري. كان مجتهدا ومجددا خاصة للصوفية لا ينافيهما أحد إلا أحمق وأعمى. تعال إلى النظر إلى ما قاله من هو أهله وصاحبه. هاهنا بيّن الحافظ ما هو حقيقتهما ودفع سوء التفاهم في هذه القضية من الأناس خصوصا من المقلدة التي غضب عليها غضبا شديدا. إني في الأول لم أحتج إلى ذكره والبحث ولم أرغب فيهما، لكن إذا عرم هذا الشر من غلاة المقلدة والمتعصبة انتشارا في بلدنا، بل بلاد المسلمين عامة، قد اضطررت إليهما ورأيت أن بيانه حاجة للناس. ونسأل الله منه علما نافعا ببيانه.

قال عبد الله بن عبد القادر التليدي رحمه الله في باب أكابر علماء المذاهب الأربعة والتقليد والعمل بالدليل :

وسئل رحمه الله تعالى بما صورته : إننا بعد الاقتناع بالرجوع إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أخذ الأحكام، يشكل علينا حال الفقهاء السابقين رحمهم الله تعالى. فأمثال ابن أبي زيد والنووي والبيهقي وعياض وأبي بكر ابن العربي وأبي الوليد الباجي وجماعة أخرى وافرة، تعلمون عنهم الشيء الكثير وتعلمون بأنهم ممن يقتدى بهم في الدين ويوصفون بالزهد والدين المتين والاستقامة التي ما بعدها غاية ومع ذلك نجد لهم مؤلفات ليست من التمشي على مذهب أهل الحديث في قبيل ولا دبير. إننا نستشكل أن يكون أهل هداية وهم على هذه الخطة فأحد الأمرين واقع لا محالة: إما أن تكون خطتهم تلك في التفريع والقياس والاستغناء عن الدليل والتمذهب الصرف هداية، وإما الأخرى لذا نرجع إليكم في الجواب عن هذا الاستشكال بما يطمئن النفس ويهديء المضطرب ويهدي الحيران.

فأجاب رحمه الله تعالى ورضي الله عنه بما نصه: والجواب يحتاج إلى مقدمة. وهي أولا إن الرجال يعرفون بالحق وليس الحق يعرف بالرجال. وثانيا: ليس الحال في كل العلماء السابقين ولا فيمن ذكرت كما وصفت من بلوغ الاستقامة إلى الغاية التي ما بعدها غاية. بل فيهم من هو كذلك كالنووي والبيهقي وابن أبي زيد وعياض ومنهم من ليس هو هناك كالباجي وابن العربي وإن كان هذا الثاني من جهة اتباع الدليل واحترامه والوقوف معه خيرا من ملء الأرض من الباجي. وثالثا: إن هناك استشكالا أعظم من إشكالك، بل هو الإشكال الصحيح وغيره ليس بإشكال. وذلك أن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ذما التقليد وحكما على المقلد بالضلال. فإما أن يكون كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم حقا والمقلد ضالا كائنا من كان، وإما أن يكون المقلد على هدى وكلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم باطلا. وبالضرورة، ندري بطلان الثاني فوجب أن يكون الواقع هو الأول.

فالله تعالى يقول: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ} [القصص : ٥٠]. والمقلدة متبعون أهواءهم في التقليد من غير هدى من الله ولا دليل من كتابه ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فهم ضلال، بل ولا أضل منهم بنص القرآن. والله تعالى جعل اتباع الهوى ضلالا وكفرا أيضا. فقال: {وَلَا تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌۢ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ ٱلْحِسَابِ} [ص : ٢٦] ونسيان يوم الحساب كفر. والله تعالى يقول: {إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْءٍ} [الأنعام : ١٥٩]. والمقلدة فرقوا دينهم وجعلوه مالكيا وشافعيا وحنفيا وحنبليا وزيديا وإماميا وأشعريا وماتريديا وغير ذلك من المذاهب. فإما أن يكونوا على الحق وكلام الله تعالى باطلا. وإما أن يكون العكس وهو أن كلام الله حق والمقلدة ليسوا على شيء. وهو الواقع قطعا.

والله تعالى يقول: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِىٓ أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء: ٦٥]. فهذا قسم من الله تعالى أنهم لا يؤمنون حتى يحكموه ولا يجدوا مع تحكيمه حرجا في نفوسهم. والمقلدة لا يحكمونه أصلا لا بحرج في نفوسهم ولا بغيره. فإما أن يكونوا مؤمنين مع ذلك خلافا لحكم الله تعالى وقوله. وإما أن يكون الحكم لله وهم غير مؤمنين. والله تعالى يقول: {فَإِن تَنَٰزَعْتُمْ فِى شَىْءٍۢ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ} [سورة النساء : ٥٩]. أي، فإن لم تردوا ما تنازعتم فيه إلى الله ورسوله فلستم بمؤمنين، والرد إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم هو الرد إلى كتاب الله والسنة بالإجماع. والمقلدة إن تنازعوا لا يردون تنازعهم والفصل فيه إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. والله تعالى يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍۢ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب : ٣٩]. والله تعالى يقول: {قُلْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلْكَٰفِرِينَ} [آل عمران : ٣٢]. أي التولي عن طاعته. والله تعالى يقول: {ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوْلِيَآءَ} [الأعراف : ٣]. لا مالكا ولا غيره. والله تعالى يقول: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ ٱللَّ} [النساء : ٦٤]. والمقلدة يقولن: "لا نقول بتقليدهم إلا لنترك طاعته ونبذ سنته ونقدم عليها رأي غيره". ويقولون: "نتبع الأولياء الذين هم الأئمة ولا نتبع ما أنزل إلينا كما أمر الله تعالى لأن اتباعه مباشرة يوقع في الضلال" مع أن الله تعالى يكذبهم إذ يقول في محكم كتابه: {إِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ} [النور : ٥٤] ويقول تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَاىَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَ} [طه : ١٢٣].

فمن يصدق المؤمن؟ وعلى قول من يعتمد؟ أعلى قول الله وخبره أن من اتبع كتابه وأطاع رسوله صلى الله عليه وسلم لا يضل ولا يشقى؟ أم على قول هؤلاء المناطيح أن العمل بالقرآن والسنة ضلال وينقلون عن أئمتهم كذبا وزورا أنهم قالوا: "الحديث مضلة إلا للفقهاء، بل يزيد خليل اللقاني....". فيقول -عناد لله ورسوله صلى الله عليه وسلم تقديما للضلال على الهدى- : "نحن خليلون. إن ضل ضللنا وإن اهتدى اهتدينا". ومن اختار الضلال فهو ضال في الحال سواء كان خليل ضالا أو مهتديا. ولو تتبعنا القرآن الكريم لذكرنا ثلاثة أرباعه تقريبا في الموضع. وقد أشبعنا القول في ذلك في كتابنا الإقليد بتنزيل كتاب الله على أهل التقليد.

والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لقد تركتم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها سواء لا يزيغ عنها إلا هالك". والمقلدة يقولون بملء أفواههم: "كلا! لقد تركنا في ليل بهيم وظلمة حالكة ولا يتبعها إلا ضال فيجب تركها والعمل برأي الفقهاء". فمن الصادق في خبره ومع من الحق في حكمه؟ أمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق والمصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى أو مع هؤلاء الجهله؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواحذ. وإياكم ومحدثات الأمور. فإن كل محدثة بدعة. وكل بدعة ضلاله". والتقليد بدعة بإجماع الفقهاء، فضلا عن العلماء إذ ما حدث إلا في القرن الثالث ولم يكن عليه الصحابة والتابعون والسلف الصالح. فإم أن يكون خبر الرسول صلى الله عليه وسلم حقا والتقليد ضلالا وأهله مبتدعة ضالين وإما أن يكون العكس وهو محال. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك". والطائفة تشمل الواحد والاثنين كما ذكره أهل اللغة. فلم يقل صلى الله عليه وسلم: "لا تزال أمتي" كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على ضلالة"، بل أخبر أن أمته ستنقلب على عقبها وتغيردينه وسنته وأن منتهى ظهورها والتمسك بدينها إلى سنة مائة خمسين، وهو وقت ظهور فقه أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن بعد وفاته قام أصحابه بشر مذهبه وتمكن أبو يوسف رحمه الله تعالى من الدولة والرياسة مع الرشيد. فكان لا يولي القضاء إلا من يلتزم الحكم برأي إمامه.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على ضلالة"، بل لا بد أن تبقي فيها الطائفة الظاهرة على الحق؛ والله تعالى يقول: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} [ص : ٢٤]. ويقول: {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ : ٣٦]. فهذا إخبار من الله تعالى بأن الصالح في الناس قليل. فمن ظن خلاف هذا فهو كافر مكذب لله تعالى. وهذا القليل هو الطائفة العاملة بالدليل، الظاهرة على الحق التلي لا يضرها من خالفها ولا من خذلها. والكثير هم المقلدة الجاهلون بأمر الله ودينه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بدأ الدين غريبا وسيعود كما بدأ. فطوبى للغرباء الذين يحبون من سنتي ما أفسد الناس". وكيف يكون الدين غريبا وقد عم مشارق الأرض ومغاربها والمسلمون أكثر من خمسمائة مليونا؟ ولكن غثاء كغثاء السيل، مساجدهم عامرة وليس فيها مسلم كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم. وإنما الغريب بينهم من نبذ التقليد وعمل بالدليل واتبع ما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وبالجملة فالمقال في هذا طويل.

فصل: إذا عرفت هذا فالجواب عن الإشكال الذي أوردته إجمالي وتفصلي. أما الإجمالي فهو أن المقلدة على ثلاثة أقسام: عوام وعلماء بحسب العرف وإن كانو جهلة في الحقيقة وأئمة علماء. فالعوام لا يوصفون بالتقليد ولا اجتهاد لأن العامي لا مذهب له وإنما مذهبه قبول قول من يفتيه. والقسم الثاني العلماء على الحقيقة وهم المجتهدون الاجتهاد المذهبي. وهؤلاء هم الذي يطلق عليهم مقلدة مالكية أو شافعية أو حنفية على الحقيقة لأنهم ينظروا في أصول الأئمة التي بنوا عليها مذاهبهم فاختار كل واحد منهم مذهب إمام بعينه لأنه رأى بحسب نظره واجتهاده أن هذه الأصول هو الحق الذي يجب التمسك به. فالمالكي نظر قواعد مذهب مالك وفي قواعد غيره وأصولهم التي بنوا عليها مذاهبهم، فرأى أن أصول مالك أرجح من أصول غيره فتمسك بها لاعتقاده أنها الحق وغيرها بضد ذلك. فهو مجتهد في اختيار المذهب. وهل هو مصيب أو مخطي؟ في الواقع، هذا ليس إليه، بل هوو خارج عن مقدوره. إنما هو قد عمل الذي عليه واجتهد. فإن أصاب فله أجران. وإن أخطأ فله أجر. فلو قلت لواحد منهم: "لم اخترت مذهب مالك على مذهب الشافعي؟" أو العكس مثلا. لقال لك: "إن المذهب الذي اخترته مبني على كذا وكذا وهو الحق والدليل على كونه هو الحق كذا وكذا وهكذ إلى آخر أصول المذهب". ثم يتعرض لأصول المذاهب الأخرى فينقضها أصلا أصلا بالدلائل الظاهرة له. فهو مقلد مجتهد في آن واحد. ثم منهم يستعمل هذا القدر في أول الأمر حتى يحصل له الاعتقاد الراجح بأن مذهب إمامه هو الحق ويترك بعد ذلك النظر في أدلة فروعه لأنه قد اعتقد أن المذهب كله حق وغالب هؤلاء فقهاء ليس لهم معرفة بالحديث. فلذلك اعتمدوا على النظر في أصل المذهب وتركوا النظر في أدلة فروعه. ولكنهم إذا وجدوا دليلا مخالفا لقول إمامهم أو وجدوه قد ضعف مدركه ورأيه في مسألة خالفوه فيها وقالوا قولا نسب إليهم في المذهب أو رجحوا قولا لمن سبقهم نسب إليهم ترجيحه. فهؤلاء وإن كان مقدلة، فهم على هدى وحق. ومن هؤلاء عياض والنووي وابن العربي والأئمة المقلدون غالبا، لا كُلًّا. وهم أهل القرن الثالث إلى السابع ما عدا أهل الجمود منهم.

ومنهم من يكون من أهل الحديث فيعرض جميع فروع مذهبه على الدليل. فما وافقه، أخذ به وما خالفه، تركه وعمل بالدليل. وهو مع ذلك متمسك بالانتساب إلى المذهب لاعتقاده أن إمامه لو علم بهذا الدليل لقال به كما نص عليه الأئمة الأربة يقول كل منهم: "إذا صح الحديث فهو مذهبي". ومن هؤلاء النووي وابن العربي أيضا. فهؤلاء أئمة هداة وعلماء مجتهدون طائعون لله ورسوله صلى الله عليه وسلم تابعون للدليل، لا لمجرد رأي الإمام. ولذلك وجدت لهم أقوال كثيرة مخالفة لأقوال أئمتهم إلا أنهم وإن كانوا هداة وعلى حق، فهم في نفس الوقت غير الجادة لأنهم على غير طريق الصحابة والتابعين والسلف الصالح الذين منهم أئمتهم رحمهم الله تعالى ورضي الله عنهم. فإن مالكا مثلا ما كان يقلد الزهري ولا نافعا ولا ربيعة ولا الحسن البصري ولا سعيد بن المسيب ولا غيرهم من شيوخه وشيوخ شيوخه، بل ولا كان يقلد الصحابة حتى الخلفاء والراشدين الوارد فيه الحديث وفروعه المخالفة لهم لا تكاد تنحصر. وإنما كان يأخذ بالدليل وربما ظهر له أنه الحق. وهو الواجب على كل مسلم. وكذلك الشافعي ما كان يقلد شيخه مالكا ولا ابن عيينة ولا غيرهما، بل لما بلغه أن أهل الأندلس أخذوا قلنسوة مالك يستشفعون بها قال: "أو بلغ أمر مالك إلى هذا الحد؟". ثم شرع في نقض مذهبه والرد عليه فيما خالف فيه الدليل وضعف فيه مدركه. ومن هنا كان له مذهبان القديم والجديد. فهذه هي طريقة الصحابة والتابعين والسلف الصالح خير القرون.

فإن قلت: ولم تركوا طريقة السلف وخالفوهم بالتزام التقليد. فالجواب: إن الحامل لهم على ذلك أمران. أحدهما أنهم لم يكن لجميعهم معرفة الحديث ولا قدرة على الاستدلال لكل جزئية. وإنما كان لهم كبير فكر وقوة نظر أدركوا بها حقيقة مذهب إمامهم فاعتمدوا على ذلك. ويدلك على هذا أن كبار الأئمة المقلدين نصوا في كتبهم في الفروع والأصول على حرمة التقليد وذموه غاية الذم مع أنهم منسوبون إلى مذهب من المذاهب لأنهم يعتبرون أنفسهم غير مقلدة وأنهم مجتهدون وافق اجتهادهم اجتهاد إمامهم كما قال القاضي عبد الوهاب وعياض والقرافي وغيرهم. ثانيهما الدنيا. فإن الله تعالى جعل المخلوق مبتلى في هذه الدار يأمر المعاش وجعل أهل العلم ضعفاء عاجزين عن اكتساب قوتهم من الأسباب المتعارفة، بل ولا يمكنهم تحرير المسائل والتوسع في الاطلاع مع الاشتغال بالتكسب كما قال الشافعي رضي الله عنه: "لو كلفت شراء بصلة، ما فهمت مسألة". وإن كان أهل الحديث في الصدر الأول يفنون أعمارهم في طلب الحديث وجمعه من عند الشيوخ حتى كان الواحد منهم يبقي في الرحلة أربعين سنة، فلم يكن عندهم الوقت ليشركوا غيره من الفنون التي لم يكن دُوِّنَ منها شيء، بل كانت تدرك أيضا بالرحلة إلى الشيوخ وتقييدها عنهم. فكان النحوي واللغوي لا يستطيع أن يضم الى فنونه غيرها. وكذلك الفقيه لا يستطيع أن يكون محدثا لغويا نحويا ولا يحرز من ذلك إلا القدر الواجب الذي لا بد منه.

وكانت الملوك في حاجة إلى الفقهاء لا إلى غيرهم لأن علم الفقهاء هو الذي ينفعهم في فصل القضاء والحكم بين الناس وإقامة أمور الدولة السياسة على ميزان الشرية فقربوا الفقهاء وولوهم القضاء والفتيا ورفعوا مناصبهم وأجلوا أقدارهم وأغدقوا عليهم النعم لشدة انتفاعهم بهم فصار الفقه هو الموصل إلى الدنيا ورياستها وعظم الجاه فيها بين الملوك والعامة. وكان قد اشتهر مذهب أبي حنيفة بالعراق وخرسان وما وراء النهر. واشتهر مذهب الشافعي بالحجاز واليمن والمصر حتى قال أشهب: "اللهم أمت الشافعي وإلا ذهب علم مالك بن أنس". واشتهر مذهب مالك بمصر أيضا والمغرب والأندلس. وألزم أهل كل قطر القضاء والفتوى على مذهب الإمام الشائع مذهبه فيه تقريبا للراحة لأن نصوصهم موجودة مدونة فتوطدت المذاهب بذلك ورسخ قدم التقليد وصار العالم المتطلع الى الدنيا والتوسع فيها لا يمكنه الوصول إليه إلا من طريق التقليد. ولهذا كان العالم يصل إلى درجة الاجتهاد ولا يستطيع أن يفارق مذهب بلده لأنه لو فعل، لنبذ وطرد من أبواب الملوك وحرم من سائر الوظائف. وقد سئل الحافظ ولي الدين أبو زرعة العراقي فقيل له: "لم بقي التقى السبكي شافعيًا مع أنه حاز من علوم الاجتهاد ما لم يحزه إمامه الشافعي؟". فقال: "كان التقي قاضي القضاة وابنه تاج الدين قاضيًا بالشام وبيده مع ذلك وظائف جلها موقوف على الشافعية. فلو ادعى الاجتهاد لسلب منه جميع ذلك". فهذا هو السبب في عدم إعلانهم باجتهادهم المطلق ونبذهم للمذاهب. وانظر الحافظ السيوطى لما ادعى الاجتهاد. كيف نبذه أهل عصره وحاربوه وبقي منعزلا في بيته. وهكذا شأن كل من ادعى الاجتهاد.

والقسم الثالت من المقلدة هم الجهلة المعروفون في عرف الناس بالفقهاء والعلماء كأهل عصرنا ومن قبلهم إلى القرن الثامن. فهم المقلدة الضالون المضلون. فلو قلت لواحد منهم لم صرت شافعيا ولم تكن مالكيا أو حنفيا وبالعكس، فإن الترجيح دون مرجح باطل، فقال: {إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰٓ أُمَّةٍۢ وَإِنَّا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم مُّهْتَدُونَ} [الزخرف : ٢٣]. وقد أفتينا مرة في مسألة واستدللنا لها بالحديث. فأخذ السائل تلك الفتوى إلى الفرطاخ، وكان من علماء تطوان. فلما قرأها غضب واحتد وقطعها. ثم رمى بها وقال للرجل: "إذا جئتني مرة أخرى بفتوى فيها حديث، بعثتك إلى السجن". وناظرت مرة رجلا من تطوان، فصار يصيح ويقول: "يا عباد الله! أيأمرنا هذا الرجل بالكفر؟ أيأمرنا أن نترك خليلا ونعمل بالحديث؟". فهذا الصنف هو الذي تنطبق عليه الآيات والأحاديث وأقوال الأئمة. وهم الذين اتخذوا أحبارهم ورهبابهم أربابا من دون الله. وفيهم ألفنا كتابنا الإقليد ونزلنا جميع الآيات القرآينة عليهم. وأما الأئمة الذين أوردت الإشكال بهم فخارجون عن هذا، وهم الحاكمون على أمثال هؤلاء بالضلال.

فصل: وأما التفصيل فهو بالنسبة لخصوص الأشخاص الذين ذكرتهم. فالبيهقي ليس من هذا القبيل. فهو حافظ عامل بالدليل وهو ناصر مذهب الشافعي الذي ذكر لكل فرع من فروعه دليلا من الحديث والأثر حتى قيل: "للشافعي منة في رقبة كل عالم وللبيهقي منة عليه". وقد ألف البيهقي رسالة بعث بها إلى أبي محمد الجويني، والد إمام الحرمين يرشده إلى العمل بالحديث الصحيه ويلومه على الاستدلال بالحديث الضعيف إذ رأى ذلك منه في كتابه في الفقه. فكيف يذكر في صنف المقلدة؟ وابن أبي زيد كان فقيها لا يعرف بالحديث. ولكنه مع ذلك من أئمة السلف العاملين بالدليل على مبلغ علمهم وحسب طاقتهم ووسعهم ولم يكن كهولاء الحربي المعاندين لله ورسوله صلى الله عليه وسلم الذين يقف أحدهم على ضعف مدرك إمامه، فيقول: "أنا خليلي إن ضل ضللت وإن اهتدى اهتديت". بل معاذ الله من ذلك. وفي نوادره ومصنفاته الأخرى الكثيرة من تضعيف أقوال من سبقه وترجيح الراجح في نظره حسب موافقة الدليل. وكذلك عياض والنووي ابن العربي كسابقيهم.

وعقب هذا الجواب جاءت رسالة أخرى يقول فيها : وساعة وصلني منكم كتاب بوصول الجواب إليكم ففرحت كثيرا لأني أعلم أن تلك الشبهة التي أجبت عنها هي الشبهة التي تقف سدا بين جميع الناس وبين العمل بالدليل. فأجبت أن تعرفها حتى لا يبقى عندكم ما يمنعكم من نبذ التقليد والعمل بما يجب عليكم العمل به من الدليل. وأرجوا أن تكونوا قد اقتنعتم بذلل إن شاء الله تعالى وأعيذكم بالله أن تبقوا في حيرة من أمركم وغلظ دينكم وجرأة على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كما هي حالة المقلدة نعوذ بالله. وقد استفتاني رجل فأتيته بالحق المؤيد بالدليل لأن نفسنا وديننا لا يطاوعنا على الفتوى بقول فلان ورأي فلان. فلما دفعها الرجل للفرطاخ، غضب واحتد، وأخذته حمية الجاهلية وقطع الورقة ورمى بها. وقال للرجل: "إن عدت تأتي بفتوى فيها حديث، أدخلتك السجن". كأن حديث رسول الله صلى الله عليه كلام فرعون وقارون أو بقراط وأرسطو، لا كلام الله المنزل: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ} [النجم : ٣=٤]. وجادلت مرة محمد بن عبد الصمد أمحيح -معروف عندهم بالتجكاني- في مسألة، فصار بعد أن ألزمناه الحجة، يصيح ويقول: "ما هذا يا عباد الله! أتأمرنا بالكفر؟ أتأمركم بترك خليل والعمل بالحديث؟". وبلغني عن الدرب ولا أعرف من هو الدرب أو الدردابي أنه قال يوما في درسه: "إن هذه الأحاديث التي يدعو إليها فلان كلها خرجت من مناخير مالك في أشباه هذا" من الازدراء بكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم". ولما مات الفرطاخ، رأيته ذات ليلة في حالة سيئة. قد خرج في قبره وأتي إلي يستعطفني ويقبل لحيتي وصدري وإن لم يكلمني إلا أني فهمت أن استعطافني لأسامحه فيما كان يعارضنا به حتى أنه جاء مرة إلى حومتنا ليقابل الشريف الكتاني -وكان نازلا عنده- فوقف بباب الحومة وأرسل يطلب الكتاني. فلما نزل إليه دعاه بقدم معه إلى المنزل، فقال له: "لا أذهب إلى منزل من يعمل بالحديث ويطعن في التقليد". ثم إنه بعد أن قبل لحيتي، رجع إلى قبره فتبعته فسمعت في قبره جلبة عظيمة وصياحا منكرا وهو يعذب وبجنبه قبر اسم صاحبه أبو عبيدة فصرت أنادي صاحب ذلك القبر لأسأله: "فيم يعذب الفرطاخ؟". ومن صياحي استيقظت وأنا أصيح. وذلك قبل الفجر. والمقصود أن الأمر ليس بهين. فأرجو الله تعالى أن ينفعكم بدينكم ويوفقكم لطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والإعراض عما سواها كائنا من كان. انتهى كلامه.

أحب أن ألحق به التعقيب على هذا. فالأول أخطأ الغماري في حكايته عن أبي زرعة العراقي في سؤاله عن حال التقي والسبكي. والصواب ليس بذاك. وهو ما قاله في كتابه الغيث الهامع شرح جمع الجوامع : وقُلْتُ مَرَّةً لِشَيْخِنَا الإِمَامُ البَلْقِينِيُّ رَحِمُهُ اللَّهُ تعَالَى: مَا يَقْصُرُ بِالشَّيْخِ تَقِيِّ الدّينِ السُّبْكِيِّ عَنِ الاجْتِهَاد وَقَدْ اسْتَكْمَلَ آلاَتِهِ؟ وكَيْفَ يُقَلِّدُ؟ ولَمْ أَذْكُرَهُ هو استحيَاءً مِنْهُ لِمَا أُرِيدُ أَنْ أُرَتِّبَ علَى ذَلِكَ، فَسَكَتَ عَنْهُ. فَقُلْتُ: مَا عندي أَنَّ الامتنَاعَ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ لِلوظَائفِ التي قَرَّرَتْ لِلفقهَاءِ علَى المَذَاهِبِ الأَربعةِ، وأَنَّ مَنْ خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ وَاجْتَهَدَ لَمْ يَنَلْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وحُرِمَ وِلاَيةُ القضَاءِ، وَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ استفتَائِه ونُسِبَ لِلبِدْعَةِ. فَتَبَسَّمَ ووَافَقَنِي علَى ذلكَ. انتهى.

والثاني، في القسم الثالث من المقلدة، قد أورد محمود سعيد ممدوح في كتابه مسامرة الصديق ببعض أحوال أحمد بن الصديق كلام الغماري الذي لم يذكره في إيراد التليدي هذا. قال: والقسم الثالث من المقلدة وهم ءفي نظر المرتجم لهء العلماء الجامدون على المذاهب تقليدا لا تنقيدا واتباعا ويزيدون على ذلك عداوتهم لمن يعلن طلب الدليل والبحث عنه والدعوة لاتباعه كما جاء عن يوسف النبهاني أنه يتقذر من رؤية الداعين إلى العمل بالدليل كما يقذر من رؤية النجاسة! وكما قال جعفر الكتاني في الرد على عبد الله السنوسي: "وبعد، فقد نبغت نابغة من المجوس رأسهم ابن حزم يقولون: "لا يجوز العمل إلا بكتاب الله وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم"! فسماهم مجوسا وجعل علة تمجسهم قولهم: "لا يجوز العمل إلا بكتاب الله والحديث"! ثم قال في آخر كتابه الخرافي: "الفصل العاشر في تحريم العمل بكتاب الله وحديث رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم... إلى آخر"! هكذا يصرح بتحريم بكل جرأة ووقاحة! وسمى الخضر الشنقيطي كتابه في نصرة التقليد: "قمع أهل الزيغ والإلحاد عن الطعن في أئمة الاجتهاد". فسماهم ملاحدة وجعل قولهم: "لا يجوز تقليد الأئمة" طعنا فيهم! وقال القادري في رسالته في العمل بالضعيف من أقوال المذهب: "فإن قلت هل يجوز العمل بالحديث؟ فالجواب: لا"!. ولو أملينا عليك ما سمعناه منهم ووقع لنا معهم، لسمعت العجب العجاب. انتهى.

قال عبد الله بن عبد القادر التليدي رحمه الله في باب العمل بالدليل لا يسمى تقليدا : وسئل رحمه الله تعالى عما يقوله بعضهم من أن العامل بالحديث يعتبر هو الآخر مقلدا لأهل الحديث. فأجاب: والذي زعم أننا مقلدون لأهل الحديث جاهل كاذب. ولو كان ذلك ينافي الاجتهاد لكان مالكا مقلدا لأنه يأخذ بأقوال المحدثين قبله كالزهري ونافع وأبي بكر بن محمد بن حزم وأمثالهم ولكان الشافعي مقلدا لأنه يأخذ بأقوال مالك وابن عيينة وأمثالهم وهكذا أبو حنيفة مع عطاء وإبراهيم النخعي وحماد بن أبي سليمان وغيرهم. والجاهل لا يفهم ما يقول ولا يعرف معنى ما ينطق به. فدع الجهلة، فجوابهم الإعراض عنهم. انتهى.

قال عبد الله بن عبد القادر التليدي رحمه الله في باب العمل الدليل والاجتهاد :

والعمل بالحديث لا يسمى اجتهادا بإجماع العلماء، بل والعقلاء معهم. فإن الاجتهاد هو بذل الجهد واستفراغ الوسع والطاقة وإعمال النظر والفكر في استخراج حكم مجهول من أدلة معلومة. كما إذا وقعت حادثة ولم يوجد فيها آية ولا حديث نصا، فإن المجتهد يفكر بعمله ونظره فيها ثم يلحقها بأصل آخر على حسب ما أداه إليه نظره فيكون رأيه وقوله مخالفا لقول المجتهد الآخر ورأيه. أما العمل بالحديث فلا اجتهاد فيه أصلا. وإنما هو طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. ولو كان العمل بالحديث يسمى اجتهادا، لكان كل مسلم في الدنيا مجتهدا، ولا سيما الخطباء وأمثالهم الذين يذكرون المحرمات والمناهي ويستدلون عليها بالآيات والأحاديث ويذكرون الواجبات والمندوبات من فضائل الأعمال والأخلاق ويستدلون عليها بالحديث أيضا.

فكما يقول الخطيب مستدلا على تحريم الكذب والخمر مثلا، قال رسول صلى الله عليه وسلم: "الكذب مجانب للإيمان". وقال تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِى ٱلْكَذِبَ ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ} [النحل ١٠٥]. وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن". كذلك مثله لو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". وقال صلى الله عليه وسلم: "الصائم المتطوع أمير نفسه. إن شاء صام وإن شاء أفطر". وقال صلى الله عليه وسلم: "من أكل أو شرب ناسيا وهو صائم فلا قضاء عليه. فإنما أطعمه الله وسقاه". وقال صلى الله عليه وسلم: "ثلاث يحبها الله؛ تعجيل الفطور وتأخير السحور ووضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة". فكما يقول الخطيب والواعظ: قال عليه الصلاة والسلام: "من صلى قبل الظهر أربعا وبعدها أربعا، حرمه الله على النار". كذلك يقول: قال عليه الصلاة والسلام: "من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال، كان كصيام الدهر". مع أنهم يقبلون من الخطيب والواعظ حديث صلاة قبل الظهر وبعده، ولا يسمونه اجتهادا ولا يقبلون منه صيام ستة من شوال لأن إمامهم قال إنه مكروه حيث لم يبلغه الحديث. والحديثان كلاهما عن النبي صلى الله عليه وسلم وكلاهما ترغيب في العمل، لكنهم جعلوا العمل ببعضها اجتهادا واعوا كذبا وزورا أن الاجتهاد انقطع وجعلوا بعضها عملا لا اجتهادا.

أما شروط الاجتهاد فهي معرفة الدليل قليل من العربية والأصول وأقوال السلف الصالح مع الذكاء وفقاهة النفس. ومن كان عنده سنن أبي داود والبيهقي ونيل الأوطار للشوكاني والمحلى لابن حزم والمغني لابن قدامة وشرح المهذب للنووي، فإنه تكفيه في الاجتهاد. فإذا ضم إلى ذلك المدونة وشرح الحطاب على المختصر وشرح الهداية في الفقه الحنفي والبحر الزخار والروض النضير، فقد بلغ المطلوب. انتهى.

قال عبد الله بن عبد القادر التليدي رحمه الله في باب الرد على المقلدة القائلين بأن أئمتهم أحاطوا بالسنة :

وسئل رحمه الله تعالى عن قول غلاة المقلدة بأن الإمام لا يمكن أن يخفى عليه نص من نصوص الشريعة لأنه مجتهد. ومن شرط المجتهد أن يحيط بعلمه بكل شيء. ولذلك نرى أن الاجتهاد بعد الأئمة الأربعة انقطع لأنه لا يوجد من أحاط علمه بكل شيء.

فقال رحمه الله تعالى إجابة عن هذا الهراء: إن أحفظ الأمة أحمد بن حنبل رضي الله عنه بلا نزاع بين أهل العلم. فقد قيل: إنه كان يحفظ ألف ألف حديث ومع ذلك فقد خفي عليه أحاديث كثيرة ما رواها ولا سمع بها. وقد رواها أصحابه ومقلدته. بل رواها ابنه عبد الله في زوائد على كتب أبيه، وتلميذه أبو داود في سننه. فكيف بمالك الذي لم يبلغ حديثه عشر حديث أحمد جزما مقطوعا به. فإن أكثر ما نقل عن مالك أنه كان يحفظ أربعين ألف حديث. فهو أقل من عشر ما كان يحفظه أحمد، بل أقل من نصف عشرة، إذ نصف عشر ألف ألف خمسون ألفا. وسبب ذلك أن أحمد رحل في طلب الحديت وطاف الأقطار ودخل مدن العراق والحجاز والشام واليمن وغيرها وأكثر الشيوخ والمتون والطرق والموقوفات والمقطوعات. ومالك لم يرحل من المدينة إلا إلى مكة. ولم يكن عنده أحاديث أهل الحجاز على عدم إكثاره من شيوخ الحجاز أيضا لأنه كان ينتقي الشيوخ ويختار من يروي عنه. وكان الحديث في وقته غير مدون ولا مجموع في مصنفات. إنما كان مفرقا عند الرجال. فكان أكثر الناس شيوخا وأبعدهم رحلة أكثرهم حديثا. ودع عنك هذا فقد يكون كل ما نقل عن مالك وأحمد مبالغا فيه. وإن كانت رحلة أحمد وكثرة شيوخه، وعدم رحلة مالك وقلة شيوخه أمرا مقطوعا به كانقطاع بوجودهما. ولكن هذا مسند أحمد بين أظهرنا فيه نحو أربعين ألف حديث من المرفوع خاصة. وموطأ مالك بين أيدينا أيضا فيه ستمائة حديث ونيف وعشرون حديثا مرفوعا. وإن استغربت في هذا، فمسند أحمد في ستة مجلدات ضخام. كل مجلد منها قدر الموطأ ثمان مرات.

وقد جمع الدارقطني والخطيب وابن عساكر بقية أحاديث مالك الغريبة التي أكثرها كذب موضوع على مالك، ما سمعه ولا رواه ولا حدث به. وجمع غيرهم مسند حديث مالك الصحيح مما ليس في الموطأ فلم يبلغ هو الموطأ وباقي الغرائب مجلدا واحدا من مجلدات أحمد الستة وقد كان عبد الله بن وهب، تلميذ مالك أحفظ منه بكثير وحديثه أكثر من حديث مالك بمرات عديدة. وقد كان مالك يذكر له الحكم في المسألة فيقول له ابن وهب قد ورد في هذا حديث بخلاف ما ذكرته. ثم يحدثه به فرجع مالك إليه في الحال. من ذلك، قول المصلي في الركوع: "سبحان ربي العظيم" ثلاثا وفي السجود "سبحان ربي الأعلى" ثلاثا. فإن مالكا أنكر ذلك حتى حدثه ابن وهب بالحديث الوارد فيه فيرجع إلى مالك. ومن ذلك وقائع أخرى ضلت عنا الآن. وليس معنا مرجع نرجع إليه لوجودنا في الاعتقال. وأقرب طريق توقفك على الكثير من هذا قراءة مدونة سحنون. فإنه ينقل عن ابن القاسم عن مالك أقوالا ثم يعقبها بأحاديث مخالفة لذلك يرويها عن ابن وهب غالبا. وغرضه بذلك التنبيه على أنها خفيت على مالك. وذلك ممد يدل على كذب ما نقلوه عنه من أنه قال: "لولا مالك لضللنا". بل أعجب من هذا كله أن مالكا رحمه الله تعالى أنكر وجود أويس القرني الذي هو أشهر من وجود الحجاج بن يوسف الثقفي. وليس العجب من مجرن إنكاره وجد رجل لم يسمع به ولا فيه مسيس مما نحن فيه. وإنما العجب من كون أويس ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث صحيحة مشهورة مخرج بعضها في صحيح مسلم. فإذا خفيت عليه أحاديث متضمنة لذكر رجل يكاد يعرفه عوام الناس معرفة ضرورية، فما بالك بغيرها! فكيف يدعى جهلة المقلدة مع هذا أن لا نخفي عليه خافية.

ثم إن الإمام الشافعي رضي الله عنه أقل حديثا من مالك وإن كان أفقه وأعلم منه بكثير. وأبو حنيفة أقول الجميع وأبعدهم عن معرفة السنة. ولولا حماد وإبراهم وعلقمة، لما ذهب في هذا الباب ولا جاء. وإنما هو الرأي والقياس. فاعجب بعد هذا لظنهم الفاسد في أئمتهم. وأيضا فإنا نجد مالكا يرد على أبي حنيفة وبخطئه. ووجدنا محمد بن الحسن، صاحب أبي حنيفة وهو أيضا إمام مجتهد يرد على مالك وبخطئه. ووجدنا الشافعي يرد عليهم وبخطئهم. ويذكر لهم من الأدلة ما لم يبلغهم أو لم يفهموه من القرآن. فكيف خفي عليهم ما عرفه مجتهد مثلهم. كما أنا وجدنا من أصحابه وأصحاب أبي حنيفة من يرد عليه وبخطئه ويذكر له ما لم يبلغه من الحديث والسنة. ومن شك، فليقرأ كتب الإمام الشافعي وكت أصحاب أبي حنيفة وأصحاب مالك وأصحاب الشافعي من الأئمة الكبار أهل القر الثالث والرابع حتى يتحقق بجهله وفساد اعتقاده وظنه. انتهى.

قال عبد الله بن عبد القادر التليدي رحمه الله في باب مع المقلدة والاجتهاد :

وسئل رحمه الله تعالى عما يقوله بعض المقلدة مع أن العمل بالقرآن والسنة يحتاج إلى علم واسع وفهم ثاقب وتضلع من علوم التفسير والحديث ومعرفة الناسخ والمنسوخ والمطلق والمقيد والعام والخاص ومعرفة أسباب النزول ومعاني القرآن وبعض القراءات ومعرفة تفاسير الصحابة ومعرفة الصحيح والحسن والضعيف والموضوع والمرفوع والموقوف والمقطوع والشاذ والمعلل والمنكر ومعرفة الجرح والتعديل والثقات والضعفاء والصحابة والتابعين والوفيات والأوطان والمنفردات والوحدان والسابق واللاحق ومعرفة مذهب الصحابة والتابعين والمجمع عليه والمختلف فيه ومعرفة علم الأصول والنحو واللغة. وأغلب العلماء جهال بهذا وأبعدهم عن سماعه، فضلا عن معرفته وإتقانه ولذلك جاز لهم التقليد وكانوا بذلك معذورين فلم يؤمروا بالعمل بالدليل.

فأجاب عن ذلك بقوله: ما ذكروه تمويه وتهويل وتهويش وتضليل، لا صحة لشيء منه ولا حقيقة له كما يتضح من وجوه. الوجه الأول أن الاجتهاد لا يحتاج إلى هذا كله ولا إلى ربعه، بل لا يشترط في المجتهد أن يكون حافظا للقرآن، فضلا عن سواه. وإنما يشترط فيه أن يحفظ آيات الأحكام فقط كما أنه لا يشترط فيه الإحاطة بالسنة، بل ولا حفظ شيء منها. وإنما يشترط أن يكون عند كتاب جامع لأحاديث الأحكام. قد مثل علماء الأصول له بسنن أبي داود، وبعضهم زاد معه سنن البيهقي، وبعضهم قال إن المنتقى لعبد السلام بن تيمية الذي شرحه الشوكاني بنيل الأوطار يكفي وإن كان الحق عندنا غير ذلك كما سنذكر. وكذلك لا يشترط فيه التضلع من علم النحو، بل يكفي منه ما يفهم به اللسان ويفهم به القرآن والحديث كما هو مقرر في كتب الأصول. فسقط كل ما يهولون به في المسألة ويموهون به في هذا الباب يؤيد الذي قاله علماء الأصول ويحققه.

الوجه الثاني وهو أن الأئمة المجتهدين المجمع على اجتهادهم لم يكون بهذه الصفة ولا كانوا يعرفون كل هذه العلوم، بل منهم من كان لا يعرف العربية كأبي حنيفة معرفة أبنائها العرب. بل كان يلحن فضلا عن أن يكون عارفا بالنحو الذي كان وقتئذ لم ينضج ولم يشتهر. بل كان لا يزال في طور نشأته الأولى وعهد تنميته. وكذلك مالك وإن كان عربي اللسان. أما الأصول، فما سمع بها أبو حنيفة ولا مالك. وأول من وضعه الإمام الشافعي رضي الله عنه. وكذلك الحديث، لم يكونوا محيطين به، بل كان أفقههم وأكثرهم فروعا أقلهم حديثا كأبي حنيفة والشافعي. وأكثرهم حديثا وأحفظهم له أقلهم فقها وفروعا كأحمد بن حنبل وابن جرجر والثوري وابن راهوية كما بينته في غير هذا الموضع. ولو كان الاجتهاد يستلزم كثرة الحديث، لكان الحال بالعكس في هؤلاء، بل لكان أبو حنيفة بعيدا عن وصف الاجتهاد مع أنه أمكن المجتهدين فيه وأغوضهم على معانيه. كذالك علم الاصطلاح، لم يكن ظهر ولا دون ولا اشتهر، وكثير من فنونه وعلومه إنما ظهر بعد الأئمة المجتهدين.

الوجه الثالث: ولو سلمنا احتياج الاجتهاد إلى كل ذلك، فإنه مسير سهل على كل من طلبه وأراد التوسع فيه فإن مواده بعد الأئمة أكثر منها بآلاف الأقسام في عصرهم علوما وكتبا وشرحا وإيضاحا بحيث لم يبق فن من تلك الفنون التي اشترطموها في الاجتهاد جهلا وتعنتا إلا وقد وجدت فيه المئات من المؤلفات، بل الآلاف المؤلفة كعلم الحديت والتفسير مما لم يكن شيء منه في عهد الأئمة إلا القدر القليل والنزر اليسير في بعضه دون باقية. فلدينا اليوم كتب التفسير والقراء ات وأسباب النزول والناسخ والمنسوخ ولغة القرآن والمصاحف واختلافها وشواذ القراء ات وأحكام القرآن وكل ما يتعلق به أصلا وفرعا كما لدينا الصحاح والسنن والمصنفات والمسانيد والأجزاء والفوائد والمشيخات وكتب الجرح والتعديل والتڨات والضعفاء والمدلسين والمخضرمين والمختلطين والوفيات والموضوعات والمنفردات والحدان والصحابة والتابعين والفقهاء والمجتهدين والحفاظ والمحدثين، والرواة وكتب المصطلح وعلومه مما هو فوق الكفاية وأكثر مما ذكرتم بعشرات الأقسام. كما لدينا كتب أحكام الحديث وشرحه وكتب الخلاف العالي وكتب فقه الأئمة كالأربعة والزيدية والإمامية والظاهرية والإباضية وغيرهم. ولدينا كتب اللغة والنحو والأصول على سائر المذاهب ما هو كفيل بالإحاطة بجميع المسائل والفروع والأقوال والمذاهب فيه.

فإن قيل سلمنا هذا وكن ما ذكرته هو ما نعي العجز عن معرفته في وقتنا هذا. فالجواب عنه هو الوجه الرابع. وهو أن معرفة هذا ممكن في أقل من الوقت الذي تعرفون فيه تلك العلوم التي تفنون فيها في تحقيقها والإحاطة بها جانبا كبيرا من أعماركم إبان الطلب وبعده. بل معرفة هذا كله دون معرفة مختصر خليل بمنطوقه ومفهومه ومعرفة المطول بحواشيه وتقريراته، فضلا عن غيرهما من كتب النحو والصرف والبلاغة والكلام والأصول والمنطق وغيرها من العلوم. فإن من الناس من يقرأ مختصر خليل في عشرين سنة وأقل ما يقرؤه فيه من يختصر ولا يكثر الأبحاث والإيرادات والأجوبة ونقل كلام الشروح والحواشي أربعة أعوام. وهو تكفي لمعرفة ما يلزم من علوم الاجتهاد ومواده فضلا عن أكثر منها.

الوجه الخامس إنه يكفي للاجتهاد أن يكون عند طالبه تفسيران أو ثلاثة كابن جرير وابن كثير والفخر الرازي. ومن كتب أحكام القرآن أحكامه لابن العربي والرازي والجصاص، بل هذا يغني عن أحكام ابن العربي. ومن كتب الفقه الأم للإمام الشافعي ومدونة سحنون وشرح التهذيب للنووي والمغني لابن قدامة وفتح القدير لابن الهمام. ومن كتب الخلاف وشروح الحديث المحلى لابن حزم وفتح الباري وشرح النووي على مسلم ونيل الأوطار للشوكاني. ومن كتب الأصول الأحاكم لابن حزم والمستصفى للغزالي وإرشاد الفحول للشوكاني. ومن كتب القواعد الفقهية الفروق للقرافي والأشباه والنظائر لابن نجيم وللحافظ السيوطي. ومن كتب الاصطلاح تدريب الراوي وشرح الألفية للمؤلف وللحافظ السخاوي. ومن كتب الرجال الميزان للذهبي ولسانه وتهذيب التهذيب كلاهما للحافظ. ومن كتب الصحابة الإصابة وأسد الغاية. ومن كتب التخاريج تخريج أحاديث الرافعي للحافظ وتخريج أحاديث الهداية للزيلعي. ومن كتب الحديث الموطأ والصحيحان والسنن الأربعة وسنن الدارقطني وسنن البيهقي ومستدرك الحاكم. ومن المختصرات الجامعة منتقى ابن تيمية وبلوغ المرام مع شرحه سبل السلام. كل هذا مطبوع متداول. وما زاد على هذا فهو على سبيل التوسع وإلا ففيما ذكرناه كفاية.

الوجه السادس أن المطلوب هو العمل بالدليل وعدم الإعراض عنه إذا استبان، لا الاجتهاد بمعنى استنباط الأحكام الدقيقة والنوازل الغريبة النادرة قبل وقوعها كما كان شأن المجتهدين. فإن ذلك لا داعي إليه ولا أمر الله تعالى به، بل نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه وكرهه الصحابة والتابعون. بل لا مانع من الأخذ بأقوال أئمة السلف الصالح كالأربعة ومن قبلهم فيما لم يعرف المرء دليله. فإن التمسك بأقوالهم خير من عمله برأية إذا لم يبلغ رتبتهم. وإنما المطلوب العمل بالدليل فيما استبان فيه خطؤهم لا التعصب والعناد وادعاء أن العمل بالقرآن والحديث حرام بل ضلال وإلحاد مع التزام لأخذ بقول واحد من الأئمة دون غيره أخطأ أم أصاب! فبان من هذه الوجوه أنه لا دليل للمقلدة في تقليدهم ولا حجة تنجيهم بين يدي الله تعالى من إعراضهم عن المعل بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأن كل ما يموهون به في انقطاع الاجتهاد وتعذره باطل لا أصل من الصحة. انتهى.

قال أحمد الغماري في مقدمة كتابه تحقيق الآمال في إخراج زكاة الفطر بالمال :

فمن يعلم أن أفعال المكلفين لا تخلو من أحكام الله ويعلم أن نصوص الشرع الدالة على الأحكام محصورة متناهية والأفعال والحوادث غير محصورة ولا متناهية وما لا ينحصر ولا يتناهي لا يضبطه ما ينحصر وتيناهي، يعلم قطعا أن الاجتهاد واجب الاعتبار وأن الزمان لا يجوز عقلا خلوه من مجتهد قائم لله بالحجة على خلقه. وذلك باستنباط حكم أفعالهم المحدثة ووقائعهم المتجددة حتى يكون لكل حادتة اجتهاد يبين حكم الله فيها بطريق النظر والاستدلال. وإلا لزم تعطيل الأحكام في كثير من الحوادث والأفعال وترك الخلق سدى يعمهون في بحار الهوى والضلال واجتماع الأمة على الخطأ والباطل وذلك محال! ولهذا حكم الأئمة وفقهاء الإسلام من سائر المذاهب بأن الاجتهاد فرض كفائي وأنه يجب أن يكون في كل قطر من تقوم به الكفاية وأن الفرض لا يتأدى بالمجتهد المقيد، بل لا بد من المجتهد المطلق. وحكوا الاتفاق على هذا، بل حكى الإمام الشافعي وغيره الاجماع عليه.

والاجتهاد هو استعمال النظر في النصوص واستفراغ الوسع والطاقة في استخراج الأحكام منها بقياس ما لم يذكر فيها على ما ذكر بعلة جامعة مع مراعاة الأصول والمقاصد. بهذا كانت شريعتنا مستقرة إلى قيام الساعة وعامة لكافة الناس. فكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعث نبينا صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافتة وختم به النبييون فلا نبي بعده لأن شريعته صالحة لكل جيل في كل مكان وزمان متكلفة بعبادة الخلق وبمصالحهم الدينية والدنيوية في كل عصر وأوان. فما من حادث يحدث في قطر على اختلاف عوائده وطبيعته ولا في زمان على تبدل أطواره وتغير حالته إلا وفي نصوص الشريعة وأصولها ما يبين حكم الله تعالى في تلك العوائد المختلفة والحوادث المتجددة والوقائع النادرة المتباينة: {مَّا فَرَّطْنَا فِى ٱلْكِتَٰبِ مِن شَىْءٍۢ} [الأنعام : ٢٨]. ولولا ذلك لكانت الأمة مضطرة إلى وضع القوانين وتغييرها بتغير الأزمان وتبدل الأطوار كما هو شأن الأمم الأخرى على اختلاف الملل والنحل والأديان. فما من أمة، بل ولا دولة إلا وتغير قوانينها الشرعية والسياسة وتدخل عليها من الزيادات والتعديلات ما يناسب الظروف والأحوال. كلما تغيرت الحوادث وتبدلت الأطوار، وربما وقع لهم ذلك في السنة الواحدة مرات.

أما الشريعة الإسلامية، فمنذ جاء بها نبيها الأكرم، ورسولها الأشرف الأعظم صلى الله عليه وسلم وهي مستقرة خالدة عامة شاملة لكل الواقائع والحوادث والقضايا والنوازل في كل العصور والأزمان، لا تتغير ولا تتبدل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ} [الحجر : ٩]. فمن رجع إلى كتب الفقه والنوازل الشرعية، يجد أحكام القضايا المحدثة والنوازل المستجدة لا تخرج عن قواعد الشريعة وأصولها مهما كثرت النوازل وتباينت أنواعها وتعددت الوقائع واختلف أجناسها. لا فرق فيها بين ما صدر في القرن الأول والثاني أو السابع والثامن أو الثالث عشر والرابع عشر على اختلاف هذه الأزمان وتباينها وتغير حوادثها وأطوارها. وهذا أيضا من أعظم الحجج وأوضح البراهين على عدم انقطاع الاجتهاد وخلو الزمان من المجتهدين. فإن كتب النوازل والفتاوى على المذاهب الأربعة وغيرها بالغة آلاف المجلدات وجل ما اشتملت عليه صار من غير الأئمة الأربعة، بل عن غير أصحابهم وأصحاب أصحابهم. إنما هو استنباط من جاء بعدهم الفقهاء والمفتين في كل عصر إلى وقتنا هذا الذي هو مع ضغف همم أهله وقلة عنايتهم بالعلم ورغبتهم فيه. فلما يخلو في بلد أو قبيلة من مفت أو مفتين، يستنبطون لكل حادثة حكمها من النصوص الفقهية والقواعد المذهبية أو كما تقدم لها من الأشياء والنظائر التي حكم فيها أمثالهم من المفتين السابقين. فهذا عين الاجتهاد الذي ينكره جهلة العصور المتأخرة ويدعون استحالته وعدم قدرة أهل الزمان عليه مع أنهم مجتهدون حتى في إنكارهم الإجتهاد الذي لم ينكره أئمتهم، بل عدوه من فروض الكفاية والواجبات التي لا يجوز خلو الزمان منها وهم بهذا الاجتهاد لا يشعرون!

ومن أمثلة ذلك الحوادث العامة التي حدثت في هذه الأزمان مما لم يسبق له مثير في عصور الشارع والقرون السابقة حتى المتأخر منه، بل منه لم لم يتحدث إلا في هذا القرن الرابع عشر مما نشأ عن الاختراعات الحديثية والخوارق المدهشة التي كانت من زمن قريب تعد من المستحيل فأصبحت اليوم من المألوفات العادية كالتصور الفوتغرافي والصوت الفونغرافي وحبس القرآن في اسطوانته وقراءة في الراديوم وسماعه عنه وقبول أخبار التلغراف والتليفون بثبوت هلال رمضان والعيد وحصول الميراث بخبر الوفاة منها وركوب الطيارة والغواصة وحكم الصلاة فيهما وطبع الكتب والمصاحف بالمطابع والتعامل بالأوراق المالية والبنكية وضمان السلع المعروفة بالسكورتاه والتداوي بالإبر للصائم وغير ذلك من الحوادث المستجدات التي بين حكمها علماء العصر القائلون بانقطاع الاجتهاد واستحالة وجوده والحاكمون بضلال من يدعيه مع أنهم مجتهدون!

No comments:

Post a Comment